في عام 2006، إبان المواجهة الضارية بين حزب الله وجيش الكيان في جنوب لبنان، تلك المواجهة التي تكبدت فيها قوات "الجيش الذي لا يقهر" هزيمة مذلة أدت إلى انسحابها بسرعة من ميادين قتال أصبحت مقابر لمدرعاتها، أتذكر أن بعض "الفقهاء" ممن تستضيفهم بعض المنابر الممولة خليجيا بالخصوص، كانوا قد أفتوا بحرمة الدفاع بالنصر "للروافض"، ذلك أنهم "قوم ثبت كفرهم"، "مردوا على النفاق". كان واضحا المكان الذي يقف فيه هؤلاء، والذي يقف فيه أيضا من كان يستدعيهم للإفتاء ويدفع لهم. أما في جانفي 2009، وإبان الحرب الظالمة على غزة، والتي استخدمت فيها قوات الكيان القنابل الفوسفورية متسببة في مقتل آلاف الفلسطينيين حرقا في المدارس والمستشفيات والمساجد والأسواق، فقد عاد إلينا أولئك "الفقهاء" مرة أخرى، ليتهموا حماس "بموالاة الروافض"، وهو أمر يستحق إخراجها تماما ونهائيا من "ملة الإيمان". كان واضحا أن "أمة" هؤلاء الفقهاء هي الأخرى تتمدد بالحرارة، وتتقلص بالبرودة، مثل جيوبهم تماما.
قبل ذلك كان العراق، وبعده سوريا، ثم اليمن. في كل مرة كان هناك صراع، جاء بهؤلاء من كان مستعدا ليدفع لهم، وجاؤوا هم ليقولوا ما أريد منهم أن يقولوا. كانت الوهابية هناك وهنا، تخوض المعارك بكل إمكانيات النفط، ولا يزعجها أن تأخذ في كل مرة الشكل الذي تريد أن تبدو عليه. الأمر لم يكن فقط متعلقا بالأموال، أو بالمصالح بعيدة المدى. كان يتعلق أيضا بجعل الإسلام مرادفا لمصلحة الحكام. هذه ممارسة شديدة القدم، وقد رأينا باستمرار في فضائنا الإسلامي انقسام المسلمين حتى عندما كان الغزاة على أبواب مدنهم: كان هناك باستمرار مستعدون للبيع، وكان هناك من لم يكن مستعدا. كان الهدف دوما منع الناس من الرؤية بوضوح، ثم توجيههم ضد فطرتهم ومصلحتهم وأوطانهم.
لم نسمع إلى حد اليوم العشرين من الحرب الإجرامية الصهيونية على غزة هذه الأصوات. هذا جيد. حتى الأصوات التي لم تكن تضيع أي فرصة للربط بين المقاومة و"الروافض"، لم تتكلم بعد. لكنها ستتكلم بمجرد أن يجلس المتصارعون على طاولة المفاوضات، وعندما سيبدأ حساب الخسائر والأرباح، وعندما سيبدأ ترسيم الحدود الجديدة للصراع. أنا متأكد أنهم سيعودون للواجهة من جديد، لأن هناك من سيحتاجهم، وسيكونون هناك كما عودونا دوما.
مثل هجوم السابع من أكتوبر وجرأته مفاجأة عظيمة ليس للكيان فقط، وإنما للكثير ممن كان يهب لنجدته باستمرار في "أوقات الشدة". ما يحصل من استيعاب بطيء للهزيمة لا يعني أنه لن يكون هجوم مضاد. هذا الهجوم لن ينفذه الكيان بمفرده. سيكون هناك هجوم بري آخر أكثر تأثيرا، إذ أنه سيستهدف في الصميم حالة التعبئة المعنوية التي تعيشها المقاومة وجمهورها الواسع. لن يتأخر الوقت حتى نرى نفس الوجوه مجددا على شاشات التلفزيون يعيدون علينا قصص أبي بكر وعائشة وعمر وعلي والحسين وغيرها. سيفجر بعض الجهلة أنفسهم كالمعتاد في بعض مساجد باكستان وبنغلاديش، وسيقول العامة أن الشيعة يكرهون السنة لأنهم كفار، مثل اليهود والشيوعيين، وستعود الحرب المقدسة بين الطائفتين. كان هذا النوع من الحروب متزامنا باستمرار، ومنذ أربعين عاما على الأقل، مع كل مواجهة بين المقاومة ودولة الكيان.
مع ذلك، هناك اليوم انتصار كبير آخر لا يقل عما يحدث على الأرض في غزة. لقد أسكتت المقاومة أصوات الفتنة الطائفية، واستطاعت أن تضع المعركة في مكانها الصحيح من وعينا: حركة تحرر تقاوم محتلا همجيا ودمويا، بما أمكنها من قدرات. حركة مقاومة قادرة على تأمين خطوطها الخلفية، وعلى صياغة تحالفات وصداقات. حركة تحرر قادرة على تقديم أداء تواصلي ناجح وعلى التأثير في الرأي العام الدولي، بإمكانيات جد بسيطة. والأكثر من ذلك جميعا، هذه القدرة على الصمود وعلى التحكم في مجريات المواجهة. طالما تواصل ذلك، ستخرس أصوات الفتنة. هذا أمر غدا بالتجربة أكيدا.
لقد أفسدت غزة مشاريع كثيرة، وأجهضت خططا كبيرة، وهذا ما لن يمر بلا أثمان. يكفي أن تنكسر المقاومة حتى تبدأ القضية الكبرى في دفع تلك الأثمان، وهذا ما يفرض على المقاومة أن تنتصر. ما يحصل من حرب تجاوز بكثير أن يكون من أجل غزة ولا حتى من اجل الأقصى فلسطين. لقد أصبح حربا ضد الفتنة والطائفية وخطط الاستعمار والعدوان، وحربا من أجل الإنسانية. طالما بقيت المقاومة صامدة، وطالما أضافت لانتصارها العسكري انتصارا سياسيا، سيكون ذلك ضمانا لوحدتنا جميعا، وتحصينا لهده الوحدة ضد نوازع الفتنة والتحطيم من الداخل. هذه مهمة غزة اليوم، ومهمة من يقف إلى جانبها، بغض النظر عن أي أديان ومعتقدات ومذاهب وألوان وأعراق.
في الأثناء، ينتظر جميع أعداء غزة في منعطف الطريق. التركيز على الخسائر البشرية نتيجة القصف الهمجي لا يحمل لديهم معنى الصمود، بل أن المقاومة قد ورطت أهل غزة في مذبحة لا قبل لهم بها. نفس هؤلاء مستعدون لمقايضة المساعدات بالموقف السياسي، أي بما يحقق انتظارات الكيان وحلفائه ويعلن هزيمة المقاومة. لقد كانوا دائما في المكان الخطأ.
في المقابل، فإن "الإنسانية"، تلك التي يجرها "العالم الحر" وراءه ككلب مطيع، لن تنقذ غزة. ما يحصل ببساطة أن غزة هي التي تنقذ اليوم الإنسانية، تعيد طرح الأسئلة الحقيقية وتعريف كل المعاني: معنى الكرامة، معنى البطولة، معنى الفداء والشهادة، معنى القوة والانتصار، معنى الذكاء والإرادة. لذلك تحتاج الإنسانية اليوم غزة، وتحتاج منها أن تنقذها.