عندما زار رئيس الجمهورية قيس سعيد منطقة الرديف يوم الثالث عشر من شهر جوان الفارط والتقى العمال المعتصمين بمغسلة الفسفاط، كان هناك توقع مبدئي بأن تنفرج أمور الفسفاط بالتدخل الكاريزمي للرئيس الذي غدا يمسك بكل السلطات منذ حوالي العامين. في الحقيقة، وحتى من دون كاريزما، كان يفترض بالصلاحيات وحدها أن تقدم مبررات لمن كانوا ينتظرون إعادة إطلاق الإنتاج وتوفير ما تنتظره حكومة الرئيس من مداخيل تصدير هذه المادة. لا يخفي خبراء الحكومة تعويلهم على الفسفاط في محاولتهم إيجاد حلول للأزمة المالية التونسية المستفحلة، حيث أن السياحة هذا الموسم، وبالرغم من أرقام الحجوزات المرتفعة نسبيا، لا يمكن أن تحل بمفردها المشكلة .
كان علينا أن نطلع على أشرطة لقاء الرئيس بالعمال المعتصمين، والذين يعطلون منذ أشهر طويلة نشاط مغسلة الفسفاط، حتى نفهم ما حصل. لا نتحدث هنا عن الشريط الذي بثته الرئاسة، فقد وقع تنظيفه من كثير من اللقطات غير المريحة للرئيس مثلما تنظف المغسلة شوائب الفسفاط.، بل عن الأشرطة التي سجلها بعض المعتصمين أنفسهم. في الخلاصة لم يكن الوضع مريحا للرئيس، فقد وقعت مجادلته من المعتصمين بحدة، ولم يستطع إقناعهم كثيرا بموضوع الشركات الأهلية، وبالتالي فقد تمسكوا بمواصلة اعتصامهم، بل تقول مصادر أن عدد المعتصمين تضاعف منذ تلك الزيارة بثلاث مرات.
للرديف مكانة خاصة لدى قيس سعيد. فقد تعود أن يكرّر منذ الخامس والعشرين من جويلية أنه اتخذ قراره بتفعيل الفصل الثمانين من الدستور عندما كان في طريق العودة من المدينة المنجمية إلى العاصمة، بعد أن لاحظ الكارثة الصحية التي يعاني منها المواطنون. ذكّر قيس سعيد المعتصمين أيضا بالاستقبال الكبير الذي حظي به لدى مواطني المدينة عندما زارهم في سياق انتخابات 2019. المشكل أن ذلك لم يعد كافيا جدا فيما يبدو. بل أكثر من ذلك، فقد نظم عدد من المواطنين في بداية شهر جويلية، خمسة أيام بعد عيد الأضحى، مظاهرة احتجاج ضد قطع الماء المتكرر على أحياء المدينة منذ بداية فصل الصيف الحار، وقد رفع عدد من المتظاهرين شعارات ضد قيس سعيد بالإسم . وبغض النظر عن الوضع الحالي للاقتصاد وطبيعة الإشكالات التي أصبحت تعصف بالمالية العمومية، فإن للرديف مكانة لا ينكرها أحد في موضوع الاحتجاج الاجتماعي منذ عقود طويلة، مثل بقية مدن الحوض المنجمي تماما، وهو احتجاج كان يأخذ في كل مرة شكلا جديدا.
تصنف الدراسات حول الشعبوية هذه الأخيرة كطريقة في الحكم تعتمد أساسا على توزيع الريع. ينشأ المزاج الشعبوي في الغالب ليس عن اليأس من الديمقراطية الليبرالية في شكلها السياسي والمؤسساتي فحسب، بل كشعور بالضيم الاجتماعي والحيف الاقتصادي، مما يعني توقع أن تقوم الشعبوية بإعادة توزيع الثروة بطريقة أو بأخرى، وهو ما يعطينا الشكل النموذجي للنظام السياسي الريعي. حصل ذلك في الأرجنتين مع بيرون، وحصل ويتواصل في فينزويلا مع شافيز ومادورو. في معظم الحالات، كان هناك ريع قابل للتوزيع سواء كان هذا الريع متأتيا من الثروة النفطية أو من أي نشاط اقتصادي ينم عن ثروة استثنائية. في حالة البلدان التي لا تكون الخيارات فيها متاحة، تقوم المنظومات الشعبوية بالاجتهاد لخلق ريع، فتصل مثلا إلى أفكار مثل الصلح الجزائي، أو تخطط للاستحواذ على أملاك الدولة ومقدراتها لإطلاق مشروع شركات أهلية تمنح الأنصار والشعب عموما نوعا من الإحساس بتحقيق العدالة الاجتماعية. يتعلق الأمر إذا بشعبويات فقيرة عاجزة عن تقديم ما يكفي من الريع القادر على بناء زبونية واسعة تمكن المنظومة السياسية من الاستقرار.
هناك إشكال يجب الإشارة إليه في موضوع السلوك الاقتصادي الشعبوي. في الغالب يفضل الشعبويون عندما يكونون في المعارضة تنويم الجمهور بفكرة أن النخب الاقتصادية تستغلهم، وبأن الثروات موجودة بكثرة، ولكن الحكومات تفضل دائما إبقاءها لدى الأغنياء. ليس ذلك مخطئا جدا في كثير من الحالات، لكن المشكل يبقى في تفضيل الشعبويين اعتبار أن الثروة تأتي من توزيع ما هو موجود ومخفىّ بإحكام عن أعين الشعب، على تأجيج الرغبة في الإنتاج والاجتهاد لدى الشعب. عندما يصلون إلى الحكم، يكون صعبا عليهم تدارك الأمر وتنسيب البروبغندا السابقة، فيذهبون في مسار توزيع ما يتوفر من ريع عوضا عن تشجيع الناس على العمل والإنتاج. هذا ما نجده اليوم في تونس، حيث في مقابل تكراره الممل بأن الأموال موجودة ولكن الأشرار يخفونها، لا نكاد نعثر على خطاب واحد شجع فيه قيس سعيد الشعب على العمل وأعلى من قيمة الجهد. إن مجاراة المشاعر العامة وتدليك غرائز الكسل فيها لا تثمر في نهاية الأمر إلا خرابا.
كيف نفهم أن معتصمي المغسلة رفضوا فكرة الشركات الأهلية وصارحوا الرئيس بأنهم لا يرضون عن التنظيف في شركة الفسفاط بديلا؟ بالريع الكبير الموثوق والمجرّب الذي يلكز الريع المحتمل وغير الموثوق فيقضي عليه. ببساطة، ردّت بضاعة الرئيس إليه. بطريقة أو بأخرى، وقع النظر للرئيس لأول مرة كممثل للدولة نفسها التي تنكر على الناس حقهم في "التنمية" عن طريق احتكار أرباح الفسفاط لنفسها وتركهم لوهم الشركات الأهلية. هذا تحول لافت ينبغي التأمل فيه ولو قليلا.
الحقيقة أن الصحافة تركت كل ذلك وأنتج بعضها معلّقات حقيقية حول شجاعة الرئيس الذي ذهب بنفسه للمعتصمين، وكأن هؤلاء سباع ستنقض عليه، وكأنه ذاهب إلى أرض معادية، وكأن الذهاب بلا شيء شجاعة، وكأن هذه الشجاعة تعوض العقل الذي يطلب منك أن تأخذ معك شيئا ذا قيمة تعرضه على الناس في مقابل رفع الإشكال. المشكل في الحقيقة أكثر تعقيدا من شجاعة الرئيس: ليس له ما يقترح على المعتصمين لأن الخرق اتسع جدا على الراتق، ولأنه ليس هناك ريع يمكن أن تفرط فيه دولة تخنقها الأزمة للشعب، ولأن الشركات الأهلية ليست إلا أثرا بعد عين، ولأن أموال الصلح الجزائي لم تدخل أي خزينة، ولأن الإتفاقات مع الممولين الدوليين لم تمضى، ولأن الفسفاط لن يعود لأقصى إنتاجه إلا بنفقات كبيرة يتطلبها تعصير الإستغلال والنقل والتصدير، حتى لو رفع المعتصمون اعتصامهم. غدا.
تتفق كثير من الدراسات التي انكبت على البحث في السياسات الاقتصادية للشعبوية على القدرة الخارقة لهذه الأخيرة في تبذير إمكانات الدول التي حكموها، وعبقريتهم في تحويل هذه الدول إلى دول مفلسة حتى لو كانت في الأصل دولا غنية. مثال فينزويلا لا يضاهيه أي مثال آخر في صراحته وإطلاقيته. يجعل ذلك الشعبوية في مأزق حقيقي عندما تسيطر على الحكم في دول فقيرة، بلا ريع كبير يمكن توزيعه على الشعب. لكن الأزمة الخانقة التي وفرت الظروف للشعبويين للوصول إلى الحكم والتي تتفاقم مع سياساتهم غير العقلانية، تبدأ في مراحل معينة في تحويل المزاج العام، وهو ما حصل في الرديف، إحدى قلاع المساندة للرئيس.
تتفق كثير من الدراسات حول الشعبوية أيضا على أن تحوّل هذه الأخيرة إلى السلطوية متناسب مع عدم قدرتها توفير الريع وتوزيعه، حيث لا يبقى لها في الغالب للحفاظ على وجودها في الحكم إلا استعمال وسائل الغصب. هذه الوسائل تتطلب المحافظة على تحالف وثيق بينها وبين الأجهزة الصلبة للدولة بما يمنع الاحتجاجات أو يفشلها تماما أو يبقيها في زوايا ضيقة ومغلقة. هذا التحول الدراماتيكي في السلوك السياسي الشعبوي عندما يظهر العجز عن حل الأزمات الاقتصادية والمالية لا يمكن إيقافه. ذلك ما يفسر اليوم أنه ما من خيارات أمام السلطة الحالية في موضوع الاحتجاجات الاجتماعية سوى مزيدا من السلطوية ومزيدا من القوة. الأمر بسيط ومنطقي: في الشعبويات الفقيرة، حيث لا ريع ولا عقل، ليس هناك شيء يمكن توزيعه على الناس غير الأوهام في البداية، ثم التسويف بعد ذلك، ثم القمع في النهاية