صدرت الحركة القضائية أخيرا في تونس، تلك الحركة التي بقينا في انتظارها حولين كاملين ، والتي كانت موضوع اجتماعات علنية عديدة بين رئيس الجمهورية ورئيس المجلس الأعلى للقضاء المؤقت، دونا عن تلك التي لم يسمع أحد بها. شملت هذه الحركة مئات القضاة، ما يمثل أوسع حركة نقل قضاة على الإطلاق عرفتها البلاد في تاريخها القضائي المتقلب.
لم تعد تونس حسب دستور قيس سعيد تعترف بمبدأ عدم إمكانية نقل القاضي دون رغبته، وخارج السياقات التأديبية التي يفترض أن تضبطها القوانين والتراتيب. لقد أصبح القضاء مجرد وظيفة، والقضاة مجرد موظفين. هذا هو المبدأ الذي أصبح يسيّر السلطة التنفيذية في علاقتها بالقضاء. يجب التأكيد على نقطة أخرى: لقد تورط المجلس المذكور في خرق حكم قضائي يقضي بإعادة القضاة المعزولين إلى مواقعهم، ولم يدمجهم في الحركة التي صدرت البارحة. مجلس أعلى للقضاء، متكون من أعلى القضاة رتبة، يتورط مع السلطة التنفيذية في التعسف على قضاة أنصفهم حكم قضائي؟ لم يعد رب البيت وحده بالطبل ضاربا إذا، لقد شاركه الجميع الضرب والطبل.
في الوقت نفسه، وبمبرر "ضرورة العمل" وقع إبعاد كل القضاة الناشطين في الميدان الحقوقي من مواقعهم، وألقي بهم دون طلب منهم، في ولايات الداخل. إن "ضرورة العمل" أصبحت مجرد ذريعة لتجاوز المبدأ والحق والعرف والقانون. مؤسف أن من يقوم بذلك اليوم قضاة، بل من أعلى القضاة رتبة. يتعلق الأمر أساسا بالقضاة الناشطين ضمن جمعية القضاة التونسيين، نقطة الضوء الوحيدة الباقية في عتمة القضاء المستضعف اليوم. إن أكبر المعارك تُخسر بتسليم مفاتيح القلاع، وليس فقط بالقصف والحصار.
تؤكد السلطة اليوم، في زحفها المظفر على القضاء، على صحة مبدأ خالد: إن من يعجز عن حماية حقوقه، لن يستطيع بالتأكيد حماية حقوق الآخرين. بطريقة أو بأخرى إذا، لا يمكن لسلطة تدعي أنها تقوم بإصلاح القضاء، أن تقوم في الوقت نفسه بإهانة القضاة. مثلما لا يمكن لسلطة تدعي إصلاح التعليم، أن تبدأ ذلك بإهانة المربين. فإذا كان الهدف من كل "الإصلاحات" هو تسليط قوة قاهرة على القضاة، بطردهم ونقلهم تعسفيا ومعاقبتهم على آرائهم، فإن ما يحصل تماما هو القضاء على قيمة العدل، لأن قاضيا خائفا لا يمكن أن يوزع عدلا، أو ينتصر لمظلوم، أو ينفذ أي قانون.
ينتج عن ذلك ما يلي: ينظر قاض غير مُسيّس فيما يحصل، فيقول في نفسه: هذه السلطة لن ترحم من يقف في طريقها. كان يفترض طبعا أن يقول أن هذه السلطة لن ترحم من لا يحترم القانون، ولكن الواقع أكثر فداحة مما يسمح به هذا التعويم. يؤدي به ذلك إلى تلافي "الشبهات"، وعندما تكون هناك شبهات، أن ينتظر تعليمات، أو إشارات، تجعله يصدر من الأحكام ما يتوقع أن يُنجيه من غضب مفترض، ومن أي عواصف محتملة. وهكذا فإن ما يحصل في النهاية هو أن قضية عقارية أو جبائية أو حتى من ميدان الأحوال الشخصية، لن تكون في منأى عن "اجتهاد" المجتهدين. في بعض الحالات، وقعت مساءلة قضاة عن مبررات إجتهاداتهم القانونية، وأوقفوا عن العمل بسبب ما وقع تقديره بأنها اجتهادات خاطئة. لقد قرر ذلك من يفترض أن يكونوا زملاء لهم، درسوا معهم على نفس مقاعد كلية الحقوق، ولدى نفس الأساتذة. لم يعد أي شيء بمنأى عن أي شيء.
هناك حقيقة يتجاهلها اليوم معظم الناس، وهي أن الاستبداد ظاهرة أعمق من السلطة بكثير. عندما تدمر قيمة القاضي، فأنت تدمر قيمة العدل، وعندما تدمر قيمة العدل، فأنت تدفع بالمجتمع إلى التوحش. يؤدي ذلك إلى تحطيم ما نميّز به الحق عن الظلم، وما يسمح لنا بالتفريق بين مصلحة المجتمع بعيدة المدى في التعايش السلمي، وبين مصلحة السلطة الكامنة فقط في السيطرة والتمكين لنفسها ولو أدى ذلك لتدمير مقومات الحياة الجمعية السليمة والقابلة للاستمرار.
إن الأمان القضائي يبدأ من أمان القاضي، وليس فقط من أمان المتقاضي. كذلك فإن تدمير أمان القاضي، يؤدي بالضرورة إلى زوال أمان المتقاضي. لم يعد بإمكان أي خطب أو شعارات أن تغطي اليوم على هذه الحقيقة الحزينة. يمكن لقيس سعيد أن يقول ما يشاء، ستجد أن الواقع يقول العكس تماما. هناك مبدأ كلاسيكي معروف في التعامل مع الخطاب والواقع: إذا اتضح لك أنهما متناقضان، فاترك الخطاب جانبا، واهتم فقط بالواقع. الواقع لا يكذب غالبا، لكن الخطاب قليلا جدا ما يصدق. أليس الخطاب في نهاية الأمر طريقة تسويق لما نريد، أو تعمية على ما نفعل؟
يشترك اليوم قضاة مخضرمون في تدمير مبدأ العدالة بتحطيم أسس أمان القاضي والقضاء، ويسايرون السلطة في رفضها تنفيذ أحكام قضائية أصدرها قضاة زملاء لهم، يجلسون أيضا بنفس المجلس المؤقت المذكور. أي عبث هذا: أحد "القضاة الكبار" يغض النظر عن تنفيذ حكم ينصف القضاة المعزولين ظلما، كان قد أصدره بنفسه. إنه لا يغض النظر فحسب، بل يشترك واقعيا في رفض تنفيذه، لاعتبارات سياسية تخص السلطة السياسية. من سيثق بعد اليوم بقضاء أصبح فعليا وبطريقة شبه كلية قضاء الرئيس وحده؟ هل يمكن أن ينتظر مواطن اليوم أي إنصاف من قاض خائف؟ وإذا أصبح القاضي خائفا، فهل بقي احد قادرا على الشعور بالأمان؟
لا يمكن الاحتجاج بالخوف من السلطة عندما يتعلق الأمر بالقاضي، ولا يمكن التبرير بالأبناء والقروض. هذا ليس مجرد كلام نظري وشعارات. هذا هو الأساس الذي تقوم عليه قيمة العدل كضامنة لبقاء المجتمع وعدم تفككه وذهاب ريحه. هؤلاء الذين يتصدون اليوم للقضاء بهذه الطريقة، كان بإمكانهم إختيار مهن أخرى يكونون فيها أكثر قدرة على السمع والطاعة، أما وقد اختاروا أن يقضوا بين الناس، فإن الجُبن ظرف تشديد لا يحتمل أي تنسيب.
في خضم ذلك وبفضله، ها أننا نهوي جميعا إلى قاع بلا قرار ولكن بضوء صغير جدا في قلب العتمة: أن يفهم من سيأتي فيما بعد أن القضاة الذين عزلوا ونقلو تعسفا بسبب مواقفهم المنتصرة للقضاء في دوره الاجتماعي ومكانته العليا في حفظ حقوق الناس وسلم المجتمع، هم من يجب أن يعيدوا بناء كل شيء لاحقا.