هل كان على الفلسطينيين أن يشنوا هجومهم ذاك حتى يحصل كل هذا الانكشاف الغربي؟ وهل كان كل هذا الغرب ينتظر هجوم حماس حتى يتخلى عن جميع ملابسه ويخرج علينا عاريا من كل ما حاول نشره في العالم من قيم طيلة ثلاثة قرون على الأقل؟ يبدو أن ذلك كان بالفعل ضروريا جدا، ويبدو أيضا أنه لن يتسنى لهذا الغرب أن يجد ما يواري به تلك السوءات في المستقبل أبدا.
وهي تتكتل على حفنة من المقاومين وعلى شعب محاصر منذ عشرين عاما في رقعة شديدة الضيق، وترسل بأساطيلها وطائراتها وقنابلها الخارقة، وهي تبعث وزراء خارجيتها وحكوماتها وتطلق مثقفيها وإعلاميها وصناع الرأي لإعلان المساندة المطلقة وغير القابلة للتنسيب لإسرائيل في أكثر جرائم التاريخ دموية وتوحشا، وهي تفعل كل ما بوسعها لتبرير حرب الإبادة التي تحصل اليوم ضد الفلسطينيين في غزة، فإن أوروبا وكل الغرب يقولان لنا شيئا واضحا جدا: "كل المبادئ التي لا تتجزأ، تتجزأ. وكل القم الإنسانية بلا قيمة". حين تهدد إسرائيل في وجودها، فلا قيمة مطلقا لأي شيء آخر. هذا هو الدرس الأخير الذي يبدو أننا سنتعلمه من الغرب.
نكتشف اليوم أن الصهيونية لم تعد أمرا يهم إسرائيل، وأن اللليبرالية تحولت كلها إلى صهيونية صريحة. إنها لم تعد تجد نفسها مجبرة حتى على احترام الشكليات. ها أن قائمة الشكليات تتسع اليوم بلا أفق يغلق عليها، وتشمل حرب الإبادة المتوحشة ضد الجنس البشري ممثلا في الفلسطينيين. لم يعد للغرب من دروس يقدمها لنا بعد غزة، ولم يعد لنا من دروس نتلقاها منه. ترفع فلسطين اليوم ما بقي من بقايا غشاوة، وتسقط في ساعتين من الحرب الخاطفة المباغتة ثلاثة قرون من الكذب. ما يحصل اليوم خارق بالفعل، ولم يكن لغير فلسطين، كما حصل دائما، أن تنجزه.
تعيد المقاومة اليوم رسم أهم الحدود، وأكثرها حقيقة وواقعية، تلك المتعلقة بالثقافة. ونعيد نحن اكتشاف تلك الحدود مرة أخرى، ونعرف اليوم أنه لم يعد من الممكن أن تستقر غشاوة بيننا وبينها مجددا وأبدا. حين سيأتي اليوم أوروبيون ليقولوا لحكامنا أن عليهم احترام حقوق الإنسان، من سيصدقهم؟ إن التحول العظيم الذي يحصل منذ السبت، أن ضحايا الانتهاكات أنفسهم لن يصدقوهم، فما بالك بالحكام. انتخابات وديمقراطية وحريات، من أجل ماذا ولأي هدف؟ حتى نصبح كالغرب؟ نفس الغرب الذي يقول لنا اليوم أن كل ذلك بلا قيمة؟
تعيد فلسطين تعرية الحقائق ورفع الغشاوات، كما تعودت منذ مائة عام، وتعلم العالم ما اجتهد هذا العالم لكي ينساه باستمرار. تحطم حفنة من المقاومين الحواجز بين الصهيونية والليبرالية، وتجعلهما الشيء ذاته، وتطيح غزة المحاصرة والمقاومة بكل الحروب الخاطئة والصراعات المصطنعة. ما تنهيه الصهيونية اليوم هو الليبرالية، لكن ما كان لذلك أن يتسنى دون المقاومة. لقد أخرجت أسوأ ما في الغرب وأعادته متوحشا كما كان منذ ألف عام، وصليبيا كما كان منذ أكثر من ألف عام. باستهداف المتعاطفين مع المقاومة والمستنكرين لحرب الإبادة الحالية ضد غزة من الجاليات ذات الأصل العربي في الغرب، تحطم أوروبا آخر الحواجز: حصولكم على المواطنة والجنسية وكل الحقوق المرتبطة بها لا يعني أن بإمكانكم أن تتعاطفوا مع أعداء الكيان ولا حتى أن تغضبوا ضد جرائم الإبادة التي يقودها الكيان. تحكم الصهيونية اليوم على الغرب بخوض معركة طويلة الأمد ضد قسم من مواطنيها، معركة ستفقد فيها أشياء ثمينة جدا قبل أن تفقد وجودها ذاته.
في حين تقود الصهيونية اليوم العالم الغربي لحتفه معصوب العينين، تقول لنا المقاومة شيئا آخر تماما: أن الفلسطينيين خبروا طيلة أكثر من قرن حقيقة هذا الغرب، ، وأن هذه هي الفرصة الأخيرة لنا كي نخرج بالخلاصة الأخيرة: هذا العالم لا يمكن أن يستمر كما وقع رسمه إلى حد الآن. ما يحصل اليوم من حرب إبادة يشارك فيها الجميع ضد الفلسطينيين لا يستهدف البشر ولا الحجر فحسب، بل فكرة لا يمكن أن يستمر من دونها شيء: فكرة الإنسان المطلقة.
يعيد ذلك طرح أسئلة كثيرة، ويجعل الغرب نفسه يبرر أشياء كثيرة. هل أن التوحش الذي تمارسه الليبرالية المتصهينة يبرر توحشا مقابلا؟ تصنع الصهيونية الأكاذيب من أجل إعطاء مبرر أخلاقي أخير يطلق ذلك التوحش من آخر عقال له: "خماس تذبح الأطفال والنساء". سيحق للغرب بعد ذلك أن يمولوا ويشجعوا ويهتفوا لمن يذبح، حقيقة وليس كذبا، الأطفال والنساء. الأمر بهذه البساطة دائما، ولكننا نتغابى. تستفيق في الرأي العام الغربي أبشع الغرائز، وتقع الإحاطة بذلك جيدا عبر صناع رأي يقع انتقاؤهم بعناية بعد أن أحسنت تنشئتهم للقيام بهذا الدور، ويعاد رسم الخط الفاصل بين الثقافات بطريقة لا يمكن لكل الستائر أن تحجبها مجددا. لم يعد هذا الغرب مستعدا مجددا لسماع لفظة "لا" أو "لكن". اتسعت الصهيونية كثيرا في السبعين عاما الأخيرة، وأصبحت روح الليبرالية. تأسر الصهيونية اليوم نخب الغرب في علاقة خدمة متواصلة وبلا حدود لأهدافها. إذا كان الغرب يقول اليوم في فلسطين أنه صهيوني، فلم لا نزال نصر نحن على التفريق بين الصهيونية والليبرالية؟ إن عالما بأكمله يسقط اليوم غير مأسوف عليه. ضارة نافعة، وأي نفع!