تبرؤ بلعيد ومحفوظ من دستور قيس سعيد هو ايضا، نهاية أي علاقة للرئيس بالنُّخب. ربما كانت الحلقة الأخيرة مؤلمة لكل من شارك في "الحوار" ولجانه، لكنها في اعتقادي حلقة ضرورية لتترسخ القناعة المركزية بشعبوية الرئيس المطلقة وبأن أي مسعى لإيجاد مساحات مشتركة بينه وبين النخب هو مسعى يائس لا طائل من ورائه مطلقا.
على مستوى المسار العام، تأخرت بعض النخب عن فهم ذلك أشهرا ثمينة، ولكنها ربما كانت أشهرا ضائعة في كل الحالات. الرئيس لعب على الغموض من اجل تقسيم النخب وتفتيتها ومنع التقائها ضده. طريقته في "الحوار" ومعاملته لمحاوريه، وأخيرا دستوره، حسموا أصغر شك بأكبر يقين: برنامجه قائم أساسا على استهداف النخب، لأن نظاما مثل الذي يريد، لا دوام ولا استقرار ولا نجاح له إلا بتهميش وإقصاء ثم استهداف النخب.
الخطيئة هي في الإعتقاد، بعد أحد عشر شهرا من الممارسة والتجربة، أن هناك مشروعا للإصلاح، وفي عدم القدرة على رؤية برنامج الهيمنة والتسلط الكامن وراء كل ما اتخذ من إجراءات ومراسيم. الغباء هو الخطيئة. كل الباقي مجرد تفاصيل ونوايا ربما كان بعضها طيبا.
غياب أي آلية لمساءلة الرئيس أو لعزله في الدستور الجديد (فضلا عن احتكاره تحديد السياسات بمفرده وغياب أي مراقبة) أمر مثير للانتباه. هناك في كل دساتير العالم تقريبا آلية للمساءلة والعزل (الحنث بالقسم، الخيانة العظمى) إذ لا يعقل مثلا أن يستمر الرئيس، منطقيا، في رئاسة بلد إذا ما أثبتت عليه تهمة خيانة ذلك البلد. هذه من كلاسيكيات الدساتير.
غياب ذلك في دستور الرئيس يدل فعلا ومرة أخرى على أننا أمام دستور قيس سعيد وليس دستور التونسيين. دعنا من الرئيس في شخصه: إذا وصل شخص آخر للرئاسة، وإذا اتضح أنه خائن، ماذا نفعل؟ هل نضيف الفصل المعني عبر تنقيح دستوري وقد جعل النص من هكذا تنقيح أمرا شبه مستحيل؟
قيس سعيد، ولأنه يعرف جيدا أنه يكتب دستورا لنفسه، ولأنه لا يقبل أن يفترض من نفسه الخيانة، فقد طرح عنه الإحتمال جملة وتفصيلا. هناك في هذه النقطة ذاتية كبيرة حكمت قلم قيس سعيد. أصلا، ماهو الفصل الذي وقع تحريره خارج الرغبات الذاتية النفسية للرئيس وهواجسه؟
في كل الحالات، هذا دستور قيس سعيد الشخصي. الكارثة هو في إعداد الأرضية الملائمة ليحكم به آخرون قد يكون من بينهم، يوما ما لا قدر الله، خونة لوطنهم، ولن يساءلوا ولن يُعزلوا. هل هذا احتمال غير منطقي ؟ أو غير وارد ؟