عندما كنا نسخر من مواقف الدول العربية من الاعتداءات والمجازر الإسرائيلية قبل الحرب الحالية على غزة، كنا نظن أن الإدانة والاستنكار أقل بكثير من أضعف الإيمان. لقد بينت الحرب الهمجية الإسرائيلية التي تبيد غزة منذ خمسة أشهر أن هناك ما هو أكثر خزيا منهما، وهو مساعدة العدو على تحقيق أهدافه، تلك المساعدة النشطة والملتزمة التي لم تعد تخجل من شيء. يضيء ذلك جزءا من الواقع الذي جاء السابع من أكتوبر ليحطمه: عمق الانتصارات السياسية التي حققتها إسرائيل في المنطقة ونجاحها في تحويل أصدقاء القضية الفلسطينية، بل أبنائها، إلى أعداء للحقوق الفلسطينية وإلى حلفاء موثوقين للصهيونية. بطريقة أو بأخرى، فإن "إسرائيل الكبرى" قد غدت أمرا واقعا، وهي تكاد بالفعل أن تبلغ النهر بعد أن ابتلعت كل الصحراء الواقعة قبله.
طيلة خمسة أشهر لم تستطع فيها إسرائيل التي فتحت أمامها كل مخازن السلاح والذخيرة الأمريكية والغربية إجمالا، بل ووضعت على ذمتها حاملات الطائرات والمدمرات البحرية، وكل أجهزة استخبارات الدول الحليفة، أن تحقق أهدافها من الحرب. حصل ذلك بفضل صمود المقاومة وإيمان الفلسطينيين بحقوقهم وثقتهم في النصر. لم يحصل ذلك بفضل أي شيء آخر. بكل المقاييس السياسية والعسكرية والجيوستراتيجية، فإن ما يحصل منذ خمسة أشهر هي معجزة ميدانية حقيقية. بل إن الفلسطينيين لا يصمدون أمام هذه القوة العاتية فحسب، فقد بينت الأشهر الخمس الدامية بأنهم في مواجهة حصار من يفترض أنهم أشقاؤهم، وهو حصار أغلق أمام أبناء غزة حتى فرص الحصول على مياه الشرب. تفتك المجاعة اليوم بشمال القطاع، بل بوسطه وجنوبه، وفي حين أن "دول الطوق" تمنع الفلسطينيين حتى من الخروج للعلاج والحصول على الأدوية والإسعافات، فإن نفس تلك الدول تنشط في تمويل إسرائيل بكل ما تحتاجه، من الوقود إلى الخضر، وبالنسبة لبعضهم، حتى بالذخائر.
بإغلاق معبر رفح تماما حتى على الصحفيين، كان واضحا أن المصريين ماضون فيما جعلوا لأجله منذ قدوم السيسي للحكم: خدمة إسرائيل حتى على حساب مقتضيات "الأمن القومي المصري". تهدي مصر اليوم سيادتها لإسرائيل، وكذلك تفعل دول أخرى لا تستطيع حتى أن ترى مصلحتها الضيقة في ظل ما يجري وما يخطط له. لم تعد "الأنانية القطرية" عنصر تحليل يعتد به أصلا، حيث أصبح الأمر متعلقا بوضع كل الإمكانات من أجل أن تنتصر إسرائيل وتنهزم المقاومة. لقد مضى بعيدا ذلك الزمن الذي اعتبرت فيه المقاومة عنصر قوة للدول المحيطة بالكيان وتحول الأمر إلى عملية ارتهان كاملة للصهيونية وخططها. بالنسبة لدولتين مثل الأردن ومصر، تحولت إسرائيل إلى ضمان لبقاء الأنظمة في الحكم. هكذا أصبح الأمر بكل بساطة.
إن ما بدا في المنطلق نوعا من الخذلان لغزة لم يتحول فقط إلى تآمر في الخفاء، بل إلى مساندة حقيقية ونشطة لإسرائيل. ولا يتعلق الأمر فحسب بالجسر البري الذي يمول إسرائيل بحاجياتها العاجلة بعد غلق اليمنيين مضيق باب المندب، بل بالدخول القوي في المفاوضات التي تجري من أجل التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار.
يواجه الوفد الفلسطيني المفاوض اليوم أكثر من إسرائيل واحدة، وفي حين يهتم الأمريكيون بالجانب العسكري من الضغط على غزة، فإن عرب واشنطن يختصون في الابتزاز بالغذاء والدواء والمعابر. يأخذ الجميع مقاعدهم "لليوم التالي" للحرب، حيث يفترض أن تنهزم المقاومة وتعلن استسلامها، أو أن تقع إبادة سكان القطاع بالكامل قصفا وقنصا وتجويعا. هكذا تبدو مصر التي تحذر على استحياء من اجتياح رفح وكأنها تفاوض بهذا الاجتياح. وفي حين يقوم المصريون بانتقاد حماس واعتبارها "خارج الإجماع الفلسطيني"، فإنهم يجهزون عباس وزمرته لحكم أطلال غزة ويدفعونه للاستعداد لليوم الموعود عبر تغيير حكومة لا يصدق أحد أنها تنفع لشيء، أو أنها موجودة أصلا. كذلك يفعل الأردنيون أيضا، بل والإماراتيون بشكل خاص وأكثر حماسا.
ما الذي يعنيه قيام المصريين والأردنيين بإنزال جوي للمساعدات على وسط وجنوب القطاع وإبقاء الشمال تحت المجاعة إذا لم يكن مساعدة لإسرائيل على منع عودة أبناء الشمال إلى بيوتهم وإفراغه نهائيا كما تريد إسرائيل؟ وماذا يعني أن من يسمح لهم بذلك هي إسرائيل أصلا؟ ماذا يعني انخراط الإماراتيين الذين اختارتهم إسرائيل لإعادة بناء القطاع بعد "اليوم التالي" في هذا الجهد غير المسبوق؟ يعني ببساطة ابتزاز سكان القطاع، وزيادة الضغوط على المقاومة في المفاوضات. بالنسبة لعرب تل أبيب، هذا جزء أصيل من المعركة التي تشن على القطاع: تأليب الغزاويين على المقاومة، استغلال فظيع للأزمة الإنسانية القاتلة (وهي أزمة كانوا شركاء أصليين فيها) من أجل تحميل المقاومة فشل المفاوضات والقول بعد ذلك أنها من يجوع القطاع. يتناسق ذلك مع إشاعة الأمريكيين المدروسة لأجواء التفاؤل بقرب التوصل إلى اتفاق هدنة، ما يعني وعدا بنهاية المأساة الإنسانية. هذا تحضير للإحباط واستثمار فيه من أجل تمكين الإسرائيليين من تحقيق أهدافهم عبر المفاوضات بعد أن عجزوا عن بلوغها على الأرض رغم كل ما يتاح لهم من إمكانيات.
بإيقاف الحرب على النهاية التي تريدها إسرائيل، يكون التحالف الصهيوعربي قد ضمن هدوء جبهتي الشمال والجنوب، عودة المستوطنين إلى الجليل وعودة السفن إلى البحر الأحمر، وفوق ذلك كله إطلاق الأسرى. هذا انتصار خارق، وهو ما يفسر كل ما يحصل من نشاط متحمس على حدود الكيان. بالنسبة "لثلاثي المناطيد" سيضاف بالتأكيد التخلص من ضغوط الرأي العام الداخلي والإقليمي، وسيقع تقديم الأمر وكأنها عملية إنقاذ للفلسطينيين المساكين. سيخرج الكل منتصرا، ما عدا غزة ومقاومتها. انتصار إسرائيل يحل مشاكل كثيرة جدا، وقد يسمح لنتنياهو بالبقاء في الحكم، وبإعادة انتخاب بايدن، وبتحويل الجهد مجددا نحو روسيا في أوكرانيا. سيكون انتصار لتسعة أعشار العالم الذين تواجههم اليوم المقاومة منفردة ومجتمعين.
من زاوية نظر أخرى، يعلم الجميع الآن أين ذهبت كل تلك الأموال التي أنفقتها دولنا على التدريب والمناورات وشراء الطائرات وبناء الجيوش. لقد سقطت معظم الشحنات في البحر، بالرغم من سماح إسرائيل بعمليات الإنزال ومن ملاءمة جميع الظروف الجوية. يجعلنا ذلك محظوظين فعلا بعدم دخول جيوشنا في حرب ضد إسرائيل. لا فائدة من ذلك مطلقا إذا كنا غير قادرين على إنزال منطاد يحمل شحنة غذاء في المكان المطلوب. لكن المشهد يبدو أعقد: ماذا لو كان الأمر مقصودا للحصول على تلك الصورة، صورة الغزاويين يتزاحمون على الشاطئ ويطأ بعضهم بعضا من أجل الحصول على غذاء تالف؟ مشهد فظيع يستثمر في المأساة ويربح منها ضغطا إضافيا على المقاومة، تحضيرا لانتفاضة عليها.
رمزية تلك الصورة مدمرة لعقود من الآمال ووهم النخوة العربية ووعد التحرير الذي ظلت أجيال متتالية تعتقد أنه سيأتي يوما من العرب. لقد تركت الطائرات المقاتلة التي تواجه طائرات جيش الكيان في سماء المنطقة مكانها لطائرات النقل الجوي اللطيفة التي تدخل أجواء فلسطين بإذن وتغادرها بإذن، لتلقي مناطيد لا تستطيع حتى الوصول سالمة لمكانها المحدد على الأرض. أضع نفسي مكان شيخ فلسطيني هجر قبل سبعين عاما من الشمال إلى مخيم في غزة، واقف على شاطئ غزة، ينظر لتلك الطائرات الرقيقة ويقول: أي هوان لهذا السماء التي لم تعد تمطر إلا عارا.
هناك في كل ما يحدث تأكيد لشيء أساسي: أن السابع من أكتوبر كان أمرا ضروريا، ويوما فصل نهائيا جبهة المذلة عن جبهة الكرامة. تقاوم غزة اليوم ثمانين عاما من القهر، وجبهة مترامية الأطراف من الأعداء الذين يريدون رأسها. لم يعد مهما جدا تبين ملامح هؤلاء الأعداء، أزياءهم ولغتهم وراياتهم وقد أصبحوا جميعا في صف المذلة لإسرائيل. لا أحد يريد لغزة أن تنتصر، وقد انتصرت بعد. هذا ليس إنشاء: عدم هزيمة المقاومة أمام كل هذه الجبهة العاتية انتصار. إعادة الاعتبار لقيم الكرامة والحرية انتصار. عجز إسرائيل عن تحرير أسراها انتصار. بقاء المقاومة فاعلة ومتماسكة انتصار. حاجتهم جميعا لإمضائها قبل البدء في تنفيذ ترتيباتهم لليوم التالي انتصار. عجز أساطيلهم في البحر الأحمر عن حماية نفسها انتصار. تلقيهم الضربات في الشمال دون جرأة على شن حرب انتصار. هزيمتهم في أوكرانيا انتصار. اكتشاف الرأي العام الغربي ارتهان حكوماته للصهيونية انتصار. جنوب إفريقيا والبرازيل انتصار. كل أولئك الذين يصبرون في غزة ويدعمون المقاومة انتصار.