تداول نشطاء على الشبكات الاجتماعية بتونس بكثافة منذ البارحة تسجيل فيديو لسيدة تملك "مخبزة عصرية" بمدينة نفطة من ولاية توزر بالجنوب التونسي، وهي تحتج على القرار الذي أصدره قيس سعيد بمنع المخابز العصرية التي تنتج الخبز من الدقيق غير المدعم، من مواصلة هذا النشاط وقصر عملها على المرطبات والمثلجات. خيز واحد لكل التونسيين كما قال الرئيس، وليس خبزا للأغنياء وآخر للفقراء. تهويم شيوعي قديم تركه الشيوعيون أنفسهم منذ زمن أصبح سحيقا ولم تعد تدين به في عالم اليوم سوى كوريا الشمالية. أيّ بلاد هذه التي يصبح فيه "خبز الأغنياء" الذي لا يزيد ثمنه في مقابل "خبز الفقراء" سوى ملاليم معدودة، مقياسا للثراء ومبررا لتقسيم المجتمع طبقيا على قاعدة تلك الملاليم المعدودة؟ !
الغريب أن تقسيم المخابز إلى صنفين، صنف يستعمل مشتقات الحبوب المدعمة وصنف يستعملها بأسعار السوق ودون دعم، هي سياسة قديمة للدولة كان الهدف منها تخفيف الضغط على صندوق الدعم. الآن سيتوجب على حرفاء المخابز العصرية من الأغنياء الوقوف في الطوابير أمام مخابز الفقراء، ليزيدوها طولا. لماذا لا تصبح المخابز بصنفيها تابعة لرئاسة الجمهورية، يشرف على طوابير الناس أمامها حرس مسلح؟ ولماذا يبيع الخباز للمواطن خبزة أو خبزتين، فقد يكون الحريف محتكرا يشتري أكثر مما يحتاج إليه فعلا، أعزب مثلا. خبزتان لأعزب، هذه جريمة احتكار واضحة المعالم. بل إنه ربما تحول الإحتكار إلى مؤامرة على أمن الدولة إذا اتفق أن في الطابور أعزبان، وأنهما تبادلا التحية. من يدري؟ !
منذ أن أعلن رئيس الجمهورية قراره الفجئي ذاك، أعلنت نقابة مالكي المخابز العصرية رفضها واحتجاجها، بل وتظاهر أصحاب هذه المؤسسات أمام وزارة التجارة للتعبير عن موقفهم الرافض لطريقة الرئيس في صيد السحرة والرياح. يعلم الجميع، ما عدا الرئيس فيما يبدو، أن ستكون للقرار انعكاسات سلبية عديدة، وأن المشكل الأساسي في قضية الخبز هو في عدم امتلاك الدولة ما يكفي من عملة أجنبية لتوريد الشحنات التي تحتاجها البلاد، خاصة مع ارتفاع أسعارها في السوق العالمية. كيف يمكن لرئيس هو اليوم كالشمس التي تشرق على كل شيء أن يجهل معطى بمثل هذه البساطة؟ أم تراه يعرف ويرفض الاعتراف؟ ذلك أن الاعتراف هنا خطير، فقد يجعله مجبرا على التحول عن صيد الرياح إلى صيد المشاكل كما يعيشها الجميع، والبحث عن حلول لا يختلف حولها إثنان اليوم في تونس، ولكن لا قدرة للدولة عليها. كيف يصبح الاعتراف بالمشكل في الوقت نفسه إعترافا بالعجز؟ ثم لمن نترك الرياح إذا ذهبنا لصيد المشاكل والحلول غير المقدور عليها؟
تقول "سيدة الخبز" في الشريط الذي بثته على حسابها على الشبكات الاجتماعية ووجهته لرئيس الجمهورية ووزيرة التجارة، أن الأمر يتعلق بثمانية عشر ألف عامل، وبألفي مخبزة، وأنها مشاريع أنشأها مواطنون قرروا التعويل على أنفسهم وعدم انتظار توظيف الدولة لهم. لكنها قالت شيئا آخر هاما، وهو أن وزيرة التجارة قد اجتمعت بنقابة المخابز المعنية، قبل تعليمات الرئيس الجديدة بيوم واحد، لتعلمهم بأن ثمن طن الدقيق قد تضاعف من 665 إلى 1300 دينارا، وأن عليهم بناء على ذلك الترفيع في أسعار الخبز للمواطنين. "أين الأغنياء اليوم في تونس سيدي الرئيس؟" تتساءل سيدة الخبز. هذه مخابز تشتغل تحت إشراف ورقابة مؤسسات الدولة إذا، تدفع ضرائبها وتقتطع منها كل الدفوعات القانونية لصندوق التقاعد. "هل نحن الذين نُجوّع الشعب سيدي الرئيس؟" المشكل حسب السيدة هي عدم دفع الدولة الدعم المستحق للمخابز الأخرى، لقلة السيولة لديها، مما جعل انتاج المخابز ينخفض، بالإضافة إلى صعوبات التموين بالمواد الأولية المستوردة. ثم تختنق السيدة بعبرتها: "لقد قسمتنا وظلمتنا وجعلتنا نكره تونس التي أحببناها. أتمنى أن تكون الآن راضيا وسعيدا سيدي الرئيس ".
كانت وزيرة التجارة قد أعلنت أن الوزارة أوقفت تزويد المخابز العصرية بالمواد الأولية بسبب أن نقابة تلك المخابز قد أعلنت توقف منظوريها على النشاط احتجاجا على الإجراءات الرئاسية الجديدة، التي جاءت أصلا لتجبر أصحاب المخابز على التوقف عن إنتاج الخبز. احتيال بلاغي ساذج، بل وغبي. في الوقت نفسه، ومثلما كان متوقعا بالضبط، فقد أصبحت الطوابير أمام المخابز أكثر طولا. هذا طبيعي جدا، فقد جاء الأغنياء القبيحون ليقفوا وراء الفقراء الوادعين بعد أن توقف إنتاج المخابز العصرية. طابور واحد لشعب واحد من أجل خبز واحد. هكذا أراد الرئيس سيد الرياح.
لم يستطع حاكم واحد من كل الذين تداولوا السيطرة على مصير هذه البلاد أن يهزم الخبز. هذا درس بليغ ومطلق لا ينسّب منه استثناء واحد. يعلم الرئيس ذلك جيدا، فقد أفشل اتفاقا مع صندوق النقد خوفا من إملاءات قد تكرر مأساة "ثورة الخبز". لقد صرح بذلك علنا وفي أكثر من مناسبة: "كيف نضع النار بجانب البارود"؟ أليس غريبا أن من يدرك ذلك، يترك كل شيء ويذهب لصيد الرياح؟ وهل أن "خبزا واحدا لكل التونسيين "سيتلوه لاحقا "قميص واحد" و"حذاء واحد" و"سيجارة واحدة"؟ لم لا. في نهاية الأمر، العدل والمساواة قيمتان مطلقتان، لا يهمهما خبز ولا أحذية ولا قمصان.
يقف قيس سعيد اليوم عاجزا تماما عن النظر للمشكل في وجهه، ويستعيض عن ذلك بغزوات خطابية لا تورد قمحا ولا تطعم خبزا. يقع ذلك كله في سياق الاستعداد لانتخابات يفترض أن ينتهي بها من وضع مشروعه في "البناء القاعدي" الذي ستكتمل معه تلك التجربة الخارقة والمقاربة الخلاقة، قبل الشروع في تغليفها وترصيفها استعدادا لتصديرها للإنسانية جمعاء. توقيت صعب جدا. ستكون طوابير الناخبين أقل طولا بكثير من تلك التي تقف في اليوم نفسه أمام المخابز، إلا إذا أصبحت المخابز نفسها مراكز اقتراع.