في بداية الأسبوع المنقضي قامت السلطات الأمنية باعتقال شابين على خلفية نشرهما مقطع فيديو على منصة تيك توك استوحيا لحنه وكلماته من سلسلة الكرتون الشهيرة "بابار". كانت الكلمات تتحدث بأسلوب ساخر عن تلفيق الأمن لقضايا استهلاك مخدرات للشباب، وعن معاناة العائلات جراء ذلك، وعن ارتشاء أعوان البوليس. تعلق الأمر بطالبين جامعيين يبدو أنهما كانا يروحان عن نفسيهما بالمزاح جراء ضغط المراجعة للإمتحانات، لكن كان للبوليس رأي آخر، حيث وقع اعتقالهما على وجه السرعة من قبل أعوان الإستمرار، أي أعوان الأمن الذين يفترض أنهما يؤديان وردية الليل، والذين يفترض ألا يتنقلوا إلا في حالات خطيرة ومستعجلة لا تحتمل الانتظار لصباح اليوم الموالي. تقول السلطات أن أعوان الأمن استشاروا النيابة العمومية التي أذنت فيما يبدو بالاحتفاظ بالشابين، وأن الشابين قضيا ليلتهما رهن الإيقاف، وأكدت النيابة العمومية الاحتفاظ في اليوم الموالي، فقضيا ليلة ثانية في الإيقاف. في الأثناء كان خبر اعتقال الشابين قد أصبح معلوما، وضجت وسائل التواصل الاجتماعي برسم بابار، وبالأغنية، وبصورة الشابين. هذا أقصر تقديم ممكن لقضية بابار.
بعد يومين من الإيقاف، وبعد ما يقول الشابان أنهما تعرضا له من سوء معاملة شديد من قبل أعوان الأمن الذين اعتقلوهما ومن أعوان وضباط آخرين، وبعد رفض النيابة العمومية مطلب الإفراج الذي قدمه محامو الشابين، وبعد أن أخذت قضيتهما بعدا كبيرا وأصبحت قضية رأي عام، تدخل الرئيس قيس سعيد قبيل سفره لحضور القمة العربية قائلا لرئيسة حكومته في فيديو نشرته الرئاسة أنه لا يقبل بالظلم، وأن الأمر لا يستحق سجن شابين جامعيين في فترة إمتحانات، وأنه لا يتدخل في سير القضاء ولكن هناك تجاوزات يجب أن تعالج من طرف الهياكل المعنية بما فيها المجلس الأعلى المؤقت للقضاء.
أطلق سراح الشابين إثر ذلك مباشرة، وأمضت النيابة العمومية بالموافقة على مطلب الإفراج الذي كانت قد رفضته في اليوم السابق، وأعلنت وزارة الداخلية عن فتح تحقيق في التجاوزات المفترضة للأعوان، وأرسلت تفقدية وزارة العدل محققين للوقوف على تجاوزات مفترضة للنيابة العمومية في محكمة نابل حيث إندلعت القضية. هذا أيضا أقصر تلخيص ممكن للعاصفة التي إنخرطت فيها السلطات والتي كان مغزاها أنها أحرجت جدا إلى درجة تحويل الأمنيين والقضاة إلى متهمين، وإلى إطلاق سراح الشابين فورا. وبعد أن كان الشابان جزءا من مؤامرة مفترضة للإساءة للسلطات، أصبحت نفس السلطات متهمة من قبل الرئيس بأنها تعمدت إحراجه، وأن ذلك قد يكون دليلا على إختراق هدفه تحقيق مكاسب سياسية للمعارضة.
لماذا شعر الرئيس بالإحراج؟ هل بسبب أنه لا يقبل بالظلم؟ أم بسبب وجود إختراق لإضعافه؟ أم بسبب أن القضية تحولت إلى قضية رأي عام؟ هذه هي الإحتمالات النظرية الوحيدة الممكنة. الحقيقة أن الإحتمالان الأولان ربما حملا نفس المعنى: أي أن الإختراق المفترض ربما كان هدفه تقديم الرئيس في صورة الظالم، وهذا خطير على صورته كما يعتقد.
في الأثناء، يقع تتبع مواطنين كثيرين يوميا من أجل أفعال مشابهة، ودرجة عبث لا سابق لها في تكييف القضايا، ويحكم عليهم بالسجن بنفس التهمة: الإساءة للغير عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو إتيان أمر موحش ضد رئيس الجمهورية. من منطلق إجرائي بحت، فإن قضية بابار تفصيل صغير جدا في زحمة القضايا التي يقع إلصاقها بعدد كبير من المواطنين بسبب نقدهم للسلطات أو سخريتهم من سياساتها.
لا أدري إن كان الرئيس قيس سعيد يعتبرهم أيضا مظلومين، ولكن الأكيد أنه لم يتدخل في حالة أخرى واحدة من تلك الحالات، وأنهم قضوا أو يقضون عقوبات حكم بها عليهم قضاة يتحولون يوما بعد يوم إلى مجرد مساعدين للسلطات الأمنية، ينفذون رغباتها في الغالب دون نقاش، وبما يرضيها ويشفي غليلها، في سياق إخضاع كامل للسلطة القضائية وتهديدات متواصلة لها من قبل الرئيس شخصيا بعدم التورط في تبرئة خصومه.
لقد إعتبر ناشطون أن تدخل الرئيس في قضية الشابين دليل على أن القضاء أصبح قضاء مزاج الرئيس وإرادة البوليس، وأنه على العكس مما يقوله تماما، فإن الأمر أصبح يتعلق بقضاء تعليمات، وأن إرادة الرئيس أصبحت هي القانون. هذه مميزات نظام سياسي معروف يسمى الإستبداد والحكم الفردي. في نظام مماثل، لا يمكن تلافي أن تدار الدول بطريقة مزاجية، وأن يترك القضاة النصوص جانبا ليحاولوا فهم التوجه العام لمزاج الرئيس والتصرف على هذا الأساس. هذه هي الخسارة الكبرى في تونس اليوم: لقد فقدنا القضاء تماما، ولم تبق لنا إلا المحاكم.
المشكل أن الأمور، في نظام مماثل تسير بسلاسة طالما لم تتحول قضية ما، في ظروف ما، إلى قضية رأي عام، حيث يصبح الرئيس، وليس البوليس ولا القضاء، في وضع من الضغط الشديد والتخوف من تشوه صورته لدى المواطنين، فيقرر التضحية بأولئك الذين اجتهدوا من أجل إرضاء مزاجه، لسوء تقديرهم الحدود التي كان يجب عليهم مراعاتها، ولضرورة فهمهم أن مصلحة الرئيس أهم أحيانا من مزاجه. هذه طلبات كبيرة ومستحيلة: إن تعويد المعاونين على السمع والطاعة، وإدراكهم أن ما يحكم السياسة اليوم فعلا هو مزاج الرئيس، يجعلهم غير قادرين على الاجتهاد في تقدير المصلحة: لقد تعودوا في دولة المزاج على أن العامل القار فقط هو المزاج. المشكل الوحيد هو أن المزاج غير مستقر. هذه أمور لا يمكن توقيها أبدا، لذلك ستكون هناك دائما أكباش فداء.
إن ما أزعج قيس سعيد بالذات هو حرصه على صورته، وأنه بالرغم من إطلاعه الدقيق على ما يجري، فإنه يترك الأمور تمضي إلى عملية تقنين واسعة للسلوك المتعسف للأمنيين ضد المواطنين بتهم موغلة في التفاهة أحيانا. إن تهمة "هضم جانب موظف عمومي" التي يفضل الأمنيون توجيهها دائما للشباب، والتي لم يعد القضاء يطلب حتى إثباتها، هي الطريقة الأقصر اليوم نحو السجن. يقبع عشرات المواطنين في السجون بسبب توثيقهم اعتداءات يقوم بها أمنيون على مواطنين آخرين خارج أي سياق قانوني، ويتم ذلك في الغالب تحت ستار كثيف من التعتيم، فلا يتدخل الرئيس الذي يعلم، بالرغم من أن الأمر يتعلق في الغالب أيضا بظلم. إن صورة الرئيس أهم من الظلم.
يتواصل خلال ذلك كله بناء تحالف مصالح مع الأجهزة الصلبة للدولة، على حساب القوانين والحقوق والضمانات الدستورية. تنظر المنظومة الأمنية إلى حكم الرئيس قيس سعيد كفرصة لإعادة السيطرة على الفضاء العام بإذلال النشطاء على أتفه الأسباب، في عملية استعراض مجانية للقوة الغاشمة، واستخدام متصاعد للقضاء من أجل سحق نوازع الاحتجاج لدى الشباب. وهي تفعل ذلك، يذهب جزء من ريع هذا الجهد لنظام الرئيس بتخليصه من معارضيه ومنتقديه، لكن الجزء الأكبر من الريع يذهب للمنظومة الأمنية التي تعيد تنظيم سلوكها على الأسس القديمة لما قبل الثورة. إن الضمانات التي كانت للمواطنين ضد تعسف الأمنيين تنهار بصفة متسارعة وشاملة، حيث لا يقع استهداف النشطاء فحسب، بل المحامين الذين يتطوعون للدفاع عنهم، والمدونين الساخرين، وحتى أغاني الكرتون عندما يشتم منها تبرم بالدولة. لقد أصبح الجو بالفعل خانقا والتنفس شاقا.
هذا السياق في مجمله لا يتحمل أن يصبح تدخل الرئيس في مثل هكذا قضايا هو القاعدة. على العكس من ذلك تماما، فإن تنديد الرئيس بالظلم بمناسبة قضية مفتعلة، استثناء لن يتكرر إلا عندما يستشعر الرئيس أن صورته كمحب للعدالة بصدد التهاوي. معنى ذلك أن مجال التعسف سيبقى مفتوحا طالما ترك الأمر بيد منظومة مقتنعة أن احترامها رهين تعسفها على المواطنين. يسير الاستبداد اليوم في طريق سيارة بلا تحديد سرعة، ولا منع تجاوز، ولا علامة قف. إن ما هو مسموح به له اليوم هو فقط التوقف أحيانا للتزود ببعض الوقود ثم إكمال الطريق ومواصلة دهس الناس بلا حسيب من قضاء أو رقيب من ضمير.