منذ اندلاع الأحداث الجارية اليوم في فلسطين، وغداة السابع من أكتوبر، بدأ مجموعة من الشباب التونسيين حملة لكتابة شعارات على حائط المركز الثقافي الفرنسي الذي يقع في أحد أهم الشوارع الرئيسية في قلب العاصمة تونس، غير بعيد عن مقر السفارة الفرنسية نفسها إلا ببضع مئات من الأمتار. تزامن ذلك بالخصوص مع المواقف الرسمية الفرنسية المنحازة تماما للكيان الصهيوني، والتي كان الرئيس الفرنسي ماكرون أكثر من عبر عنها.
شيئا فشيئا، تحولت حملة كتابة الشعارات المنددة بالمجازر الصهيونية إذا إلى شعارات منددة بفرنسا ومواقفها التي وصلت إلى حد تبرير حرب الإبادة التي يقودها جيش الكيان ضد سكان غزة، دون أي رغبة في التنسيب من قبل الفرنسيين مثلما تعودت فرنسا في سياستها تجاه قضية الصراع العربي الصهيوني في العقود السابقة. كان من السهل قراءة شعارات خطها شبان تونسيون ملتزمون سياسيا تعتبر فرنسا جزءا من قوى العدوان على الشعب الفلسطيني، وتذكر فرنسا بماضيها الاستعماري البغيض. شيئا فشيئا أبدع الشباب شكلا جديدا من الالتزام: لقد قرروا بث سلسلة أفلام مساندة للقضية الفلسطينية، ولقضايا التحرر، على جدار نفس المركز الثقافي، حيث اتخذ المشاهدون مقاعد لهم على الإسفلت لمشاهدة هذه الأفلام والهتاف ضد الكيان الصهيوني بالتأكيد، ولكن ضد فرنسا بالأساس.
غير بعيد عن بناية المركز الثقافي الفرنسي في شارع باريس، اتجهت كل المظاهرات التي نظمها متعاطفون مع الفلسطينيين ومنددون بالمجازر الصهيونية، إلى بناية السفارة الفرنسية التي تحتل قلب الشارع الرئيسي من العاصمة منذ أزيد من مائة عام، والتي يحدها من اليمين كل من شارع فرنسا وشارع شارل دي قول. كانت هتافات المتظاهرين وشعاراتهم تزيد حدة بالتناسب مع تعبير الحكومة الفرنسية عن موقفها المساند للكيان الصهيوني وتواطئها الواضح مع حرب الإبادة ضد سكان غزة، حيث أصبح مطلب المتظاهرين الأساسي طرد السفير الفرنسي.
هناك ربط أساسي بين مأساة الفلسطينيين الذين افتكت وتفتك أراضيهم، وتنتهك إنسانيتهم، وتباد عوائلهم، وبين الذاكرة التونسية الجريحة بالفترة الاستعمارية الفرنسية بتونس، والتي تواصلت طيلة ثلاثة أرباع القرن. باستمرار، تعودت فرنسا حتى إبان حرب الأيام الستة في سنة سبع وستين، على المحافظة على نوع من المسافة مع المواقف الأنجلوسكسونية المساندة للكيان الصهيوني في حروبه ومواجهاته ضد العرب. لقد كان طبيعيا أن تستفيق هذه الذاكرة في ظروف عدوان اليوم، وفي ظل فقدان الفرنسيين لتوازنهم التقليدي لصالح الصهيونية. بطريقة متناسقة، تفقد فرنسا اليوم الكثير من سمعتها بين التونسيين كدولة "صديقة" استطاعت، بطريقة أو بأخرى، تجاوز عدد من جروح الذاكرة الاستعمارية. الحقيقة أن تصاعد كراهية الشارع التونسي لفرنسا تتزامن مع برود شديد في العلاقات الرسمية بين البلدين، منذ قمة جربة الفرنكوفونية قبل حوالي عام ونصف العام. لقد جرت مياه كثيرة تحت جسر العلاقات الرسمية منذ الزيارة الرسمية التي أداها قيس سعيد إلى باريس في بداية صائفة 2020.
تونس ليست معزولة عن فلسطين، وعلى كل ما يجري من أحداث كبرى في كل الفضاء العربي أو الإسلامي، وهي جزء من حالة تعاطف عارمة مع الفلسطينيين. لكنها أيضا جزء من فضاء إقليمي كان خاضعا بأكمله للاستعمار الفرنسي إلى فترة ليست بالبعيدة جدا. يكتنف البرود المتوتر العلاقات الفرنسية المغاربية منذ فترة، وبالرغم من تعدد أسباب هذا التوتر من دولة مغاربية إلى أخرى، فإن الحقيقة الماثلة للعيان اليوم، هي أن فرنسا تتجه إلى فقدان أي مصداقية لدى المغاربيين منذ وصول ماكرون للسلطة في باريس، بل ومنذ عهد سلفه ساركوزي. يتزامن ذلك أيضا مع تفكك السيطرة الفرنسية على فضاء استعماري سابق آخر جنوب الصحراء، حيث أجبر الفرنسيون على مغادرة مالي على سبيل المثال، وتحولت أنظمة الحكم التابعة لها في كل دول جنوب الصحراء تقريبا، إلى أنظمة تقتات شعبيتها من حالة العداء الشعبي للهيمنة الفرنسية.
يبدو السياق الحالي بالنسبة للكثيرين مشابها لحالة تحرير ثانية. شيئا فشيئا تفقد فرنسا التحكم في المنظومة التي نجحت في إرسائها بعد خروج قواتها من مستعمراتها الإفريقية في الخمسينات والستينات، وهي منظومة من المصالح الاقتصادية والثقافية والسياسية والجيوستراتيجية كان هدفها المحافظة على منظومة الهيمنة الاستعمارية القديمة ولكن بأساليب أقل مصادمة للرأي العام. في الحالات كلها، فإن ما يفهمه الكثير من الأفارقة اليوم هو أن منظومة التحكم غير المباشر في القرار السياسي والاقتصادي والثقافي في بلدانهم، وتركيز أنظمة موالية للمستعمر السابق، تأتي هي الأخرى بنفس النتائج: ارتهان القرار الوطني لحالة من التبعية غير المبررة.
لا يبدو أن المغاربيين يشعرون اليوم بشعور مختلف. لقد كان الموقف الفرنسي المساند دون تحفظ للمجازر الصهيونية في غزة القطرة التي أفاضت الكأس الأخير. أدى حماس ماكرون المبالغ فيه إلى جانب الكيان، الذي وصل إلى حد اقتراحه إعادة تفعيل التحالف الدولي ضد داعش وتحويله إلى تحالف ضد المقاومة الفلسطينية، إلى وصول المشاعر إلى نقطة اللاعودة لدى التونسيين. لا يعتقد أحد أن بإمكان الأمور أن تعود إلى ما قبل السابع من أكتوبر بالنسبة لمعظم التونسيين في تقييمهم للعلاقة مع فرنسا. إن نقطة حاسمة قد وقع الوصول إليها، وهذه النقطة كانت من رسم باريس، بإصرار وتصميم لم يتفق أن فرنسا قد انخرطت فيهما منذ العدوان الثلاثي على مصر قبل حوالي سبعين عاما.
هناك خسائر جانبية كبيرة لهذه التحولات. إن الدعوات المتكررة لمقاطعة البضائع والشركات الفرنسية تأخذ مدى متصاعدا بحسب تزايد حدة المواجهات في غزة، وبحسب تصاعد حرب الإبادة التي يقودها الكيان الغاصب والنازي ضد الفلسطينيين. بطريقة أو بأخرى، تتسبب إسرائيل في تعرض فرنسا إلى حملة طرد واسعة من فضاءات هيمنتها التقليدية والقديمة، والتي استغرقت حياكة شبكاتها عقودا طويلة ومجهودات مضنية.
على المستوى الثقافي البحت، وبسبب ذلك كله، تفقد النخب الثقافية والاقتصادية التي ربتها فرنسا طيلة عقود مصداقيتها في أوساط الرأي العام. هذا أخطر ما في الأمر، على المدى البعيد، بالنسبة للفرنسيين. بتحول الهيمنة الفرنسية إلى هيمنة ثقافية تستهدف التأثير عبر النخب، وبتنقيح صلات الهيمنة الاقتصادية عبر الاستعمار إلى صلات هيمنة عبر الاقتصاد، تضع باريس اليوم بمواقفها المنحازة للصهيونية من دون أي تنسيب، كامل تراث هيمنتها، موضع تهديد جدي ستتواصل انعكاساته للعقود القادمة. إن إلغاء تأشيرة شاب تونسي من مغنيي "الراب"، واسع التأثير لدى الشباب، بسبب موقفه المتضامن مع الفلسطينيين، لا يحمل على المدى المتوسط والبعيد إلا هذا المعنى. لقد عميت فرنسا تماما حتى عن رؤية المواضع التي ركنت فيها مصالحها، بسبب صهيونية سياستها الخارجية.