حصار الناس بالتجويع يحمل الصراع إلى أبعاد أخرى: بدائية ما قبل الحضارة وما قبل القانون وما قبل الحداثة. ولكن من يفعل ذلك اليوم هو التقاء الحداثة بالبداوة. حداثة الغرب وبداوة حكم العرب اللتان تجتمعان على غزة قصفا وتضييقا. لا معنى لذلك فعليا غير أن الجهد هو جهد إبادة.
على كلتا الضفتين يحصل تكثيف مريع لكل ما هو لا أخلاقي، كل الوحشية مع كل اللؤم. كل تكنولوجيا القتل مع كل بدائية الغدر. بينهما تقع غزة التي تحتفظ لوحدها بأخلاقية المبدأ وأخلاقية الفعل، بل لقد غدت تحتكرهما بالفعل.
أن ترفض حياة المذلة هو مبدأ أخلاقي عظيم. أن تصنع سلاحك بنفسك هو أيضا مبدأ أخلاقي عظيم. أن تقف أمام العالم كله، بوحشيته ولؤمه وغدره ولا إنسانيته، بطولة عظيمة.
غزة هي الأمل الباقي حتى لا تعم الوحشية العالم، وحتى تبدأ في التراجع تحت ضغط أخلاقية الإنسان.
ما يستهدف بالإبادة اليوم ليس غزة، بل النموذج الأخلاقي الذي تقدمه لأنه نقيض الوحشية التي تريد أن تسود وتحكم كل شيء، وقد اعتقدت أنها تمكنت من ذلك تماما ونهائيا.
الإنتصار لغزة وانتظار إعلان السعودية عن بداية رمضان أمر لا يستقيم. ما جعلنا لرجل من قلبين في جوفه، وكل الأمور مترابطة ارتباطا قاسيا. من أراد الحياة، فغزة هي مقياس الحياة. ومن أراد الشهادة فغزة أرض الشهادة ورمزها. من أراد الدين فغزة أيضا مقياس الدين. ومن أراد الحج، فليحج بقلبه إلى غزة. ومن أراد الزكاة، فغزة أولى بها من كل شيء. ومن أراد الكعبة، فغزة كعبة الدنيا والآخرة.