هناك مقاييس عديدة لمعرفة اتجاه سلطة ما، وإن كان يمكن تصنيفها استبدادية أو ديمقراطية. وإذا لم يكن لدي أي شك في اتجاه سير سلطة قيس سعيد وأخذ البلاد مجددا إلى عهود الظلم الغابرة، فإن التدقيق في المؤشرات يبقى نشاطا محبذا، ذلك أنه جزء أساسي من جهد التوقع والاستباق. إن توسع دائرة المنع هو أحد هذه المؤشرات، حيث يختلف النظام الاستبدادي عن ضده الديمقراطي باكتساح الفضاءات العامة بالمنع تلو الآخر، في حين يقلص النظام الديمقراطي باستمرار، من أجل أن يصنف كذلك، في تلك الدائرة وتنسحب السلطة من الميدان تلو الآخر تاركة المجتمع ينظم نفسه وللقطاعات حدا معقولا من التدبير الحر. حضور السلطة مقياس رئيسي، فكلما كانت السلطة مقتحمة للحياة العامة، كلما أوضح ذلك عدوانيتها بطريقة لا تدع للشك مجالا في نواياها السلطوية.
منع السفر، منع التظاهر، منع تناقل الأخبار، منع النقاش السياسي الحر في الإعلام العمومي، منع تناول القهوة على المعارضين، منع نقد المسؤولين والوزراء، منع التداول في عدد من القضايا التي أطلقت الدولة فيها التتبعات... هذه بعض ممارسات التغول السلطوي التي تؤكد بصورة لا غبار عليها طبيعة السلطة الحالية التي تحكم البلاد. هذا أمر لا تنكره هي نفسها، حيث تكتفي عندما تريد، فقط بتقديم التبريرات لتلك السلوكات.
في قضية التآمر بالذات، توقفت السلطة نفسها عن تقديم التبريرات المقنعة بالجريمة المفترضة، لقد اتسع الخرق على الراتق منذ اليوم الأول. إن جزءا من المنع استباقٌ، حيث يكون هدف السلطة المستبدة منع خصومها من أخذ مبادرات، لكن الجزء الآخر يتعلق بتدارك أخطاء السلطة نفسها والتعمية على افتضاحها. هذا هو الأمر بالنسبة لقضية التآمر التي لم تعد تقنع أحدا. بالنسبة لكثير من الناس، كانت القضية سياسية من اللحظة الأولى، لكن القضاء أقحم فيها إقحاما بعد أن وقع تطويعه تطويعا. ما قيمة إدانة إذا كانت سياسية عارية؟ تحتاج السلطة اليوم للقضاء لتغليف ذلك بالحرص على القوانين. في نهاية الأمر هي تعاقب معارضيها ليس لأنهم يعارضونها، بل لأنهم يخالفون القوانين. وعندما يوكل الأمر إلى القضاة، فهذا يبرؤها مثلما برأ إخوة يوسف أنفسهم. هناك دوما حاجة إلى ذئب بريء ما تعلق عليه الخطايا، لكن ذئبا غير بريء حليف أكثر وثوقا.
بمنع التداول الإعلامي في قضية التآمر، تكون السلطة قد مضت خطوة أخرى. وبغض النظر عن عدم استناد قرار منع التداول على أي اعتبارات قضائية صرفة يمكن التعويل على صدقيتها واحترامها القوانين الجارية، فإن الهدف هو الحد من اتساع رقعة الفضيحة. بمنع التداول تقع حماية القضاة من ضغط ما بقي من الرأي العام، فلا يكون أمامهم أن يوازنوا، حتى إن راودتهم أنفسهم على ذلك، بين ضغوط هذا الرأي العام وضغوط السلطة.
بمنع التداول في هذه القضية، وهو منع سيشمل في المستقبل كل القضايا المحرجة للسلطة، ستتمكن هذه الأخيرة من إسكات ما بقي من صحفيين، وردع ما بقي من محامين. عندما لا تستطيع سلطة تنفيذية تحمل على ظهرها سلطة قضائية خاضعة الدفاع عن الاتهامات الموجهة لها بالافتعال، فإنه لا يبقى أمامها إلا الحل الأقوى والسهل: منع الحديث في الموضوع تماما. هكذا ظنت النعامة أيضا منذ بدء الخليقة.
في المقابل، أعلنت نقابة مالكي الإذاعات توجهها لاحترام قرار المنع، وإلزام صحفييها بإبداء نفس الاحترام "للقانون". استمعت لرئيس النقابة المذكورة يحاول دون اقتناع تبرير موقفه باحترام قرار ليس من القضاء والقانون في شيء، كان يكفي أن يقول أن الأمر يتعلق بمالكي إذاعات حتى نتفهم "الموقف". فهم هؤلاء الدرس البليغ من إيقاف مدير إذاعة موزاييك أف أم، وميزة هؤلاء الكبرى أنهم يفهمون بسرعة.
إن المستهدف من التضييق على الإعلام وإغلاق قضايا الرأي العام عن الرأي العام، ليس هدفه الصحفيون، بل نفس ذلك الرأي العام الذي يقوم الصحفيون بتزويده بحقائق ما يجري. هذه هي النهاية الطبيعة لسلطة تحتال بقداسة الشعب وتسبِّحُ (أمام الكاميرا) بحقوقه وسيادته: اعتباره غير قادر على التمييز، وقاصرا عن الفهم، ومحاولة سجنه في حدود ما يصل إليه مدى أبواقها المجروحة. وهم يحاولون التذاكي بالتمييز بين حرية التفكير وحرية التعبير، لا يبقي الشعبويون شيئا منهما معا، فيتحول الشعب الذي يقولون أنه أصل كل شيء إلى مجرد كتلة شاحمة لاحمة، تحاول أن تقتات عندما يمكنها ذلك، ثم تنام.
يغلق الشعبويون اليوم "الدائرة الماكرة" على الشعب ويفصلونه تماما عن كل ما يجعله قادرا على الإدراك خارج حدود البروبغندا البلاغية المثيرة للشفقة التي لا يملون من صبها بمناسبة ودون مناسبة. عبر "تحليل" الخطايا وجعلها مستساغة لرأي عام يقع تشديد الحبل على خناقه يوما بعد يوم، سوف يبقى في "القنوات" فقط أولئك الذين يخرقون كل القوانين دون أن يحاسبهم أي قانون. هؤلاء لن يسري عليهم قرار منع التداول، وإن سرى، فاختيارا ولغياب الحجة فقط. هذا المنع ربما أنقذ في نهاية الأمر بقايا الماء في بقايا الوجوه.
يجب مع ذلك الإقرار بأن "الشعب يريد"، وأنه راض سعيد. هذا الرضا حقيقة لا يجادل فيها اليوم أحد ذو عقل. لا يهم إن كان سيبقى كذلك وإلى أي مدى، ولكنه اليوم سعيد. هذا يعني ببساطة أن قرار المنع، مثل كل قرارات المنع الأخرى، لا هدف لها إلا إبقاءه سعيدا مُريدًا. حاكم سعيد لشعب سعيد... وبلدة طيبة ورب غفور، فلماذا نقلق؟!