الاحتفال بعيد قوات الأمن الداخلي سيبقى طويلا في الذاكرة، ليس فقط لخطورة التوجه الذي ما فتئ رئيس الجمهورية يؤكده بالاستئثار بالخطاب الدستوري، ولكن أساسا لطبيعة السياق الذي جاء فيه. لنتفق على أنه سياق سيء لم يسبق لبلادنا أن مرت بمثله أبدا، وأن كل التناقضات قد اجتمعت فجأة مع بعضها لتنتج مشهدا بلا أفق. نعم، المشهد بلا أفق حقيقة.
ما هو أكيد اليوم هو أن الانتقال الديمقراطي كما عشناه طيلة العشر سنوات المنقضية قد وصل مداه، وأنه قد وصل هذا المدى نتيجة ليس لعدم قدرته على تقديم إجابات حقيقية للأسباب التي من أجلها اندلعت الثورة، ولتحويل وجهة مطالب الناس في الحق والعدالة إلى صراعات سياسيوية حول تقاسم مربعات النفوذ، وإنما أيضا لتناقضات منطق الانتقال نفسه.
الفاعلون الأساسيون (النهضة بالدرجة الأولى) أكدوا بالممارسة مرارا أن الديمقراطية لا تهمهم إلا بقدر ما تحقق إستفادتهم المباشرة منها، وأن نسق تركيز هياكلها يخضع لحسابات لا علاقة للديمقراطية بها. حصل ذلك باستمرار تجاه كل هياكل المنظومة الدستورية، وبالأخص تجاه موضوع المحكمة الدستورية. الحسابات كانت العنصر الرئيسي في الساحة السياسية، وهذه الحسابات كانت باستمرار تهدف للهيمنة وترسيخ السيطرة على القرار.
الديمقراطية والدستور لم يكونا سوى غطاء للتكتيكات والتحالفات والسلوكات. هذا أمر يجدر التذكير به في كل مناسبة: إسقاط حكومة الفخفاخ كان إحدى تلك السلوكات. التحوير الوزاري المأسوف على شبابه أيضا. إن ما يهم الفاعلين الرئيسيين اليوم، ومنذ الأمس وقبل الأمس، ليس الديمقراطية ولا الدستور ولكن ما يمكن غنمه منهما فحسب.
ماهي صورة الديمقراطية اليوم لدى المواطن العادي؟ هذا أمر يحسن التركيز عليه من حين لآخر. الصورة سيئة جدا، لأن ما حصل جعل الناس يكفرون بالديمقراطية. صعود الشعبوية اليوم هو نتاج طبيعي لتقصير حقيقي في الممارسة الديمقراطية ولانفصال النخب السياسية عن اهتمامات الناس المشروعة. إن الموازاة اليوم بين الديمقراطية وبين الفساد قد أصبحت أمرا شائعا ومشتركا بين معظم الناس: هذا هو التناقض الذي وصل إليه الانتقال الديمقراطي اليوم، للأسف.
إن القناعة الشائعة بأن القانون هو أداة بيد الأقوياء، وبأن القضاء عاجز عن إحترام القانون وتطبيقه، وبأن الفساد قد عم جميع أوجه الحياة، وبأن الدولة تنهار حتى في وظائفها الدنيا، هو نتيجة منتظرة لتطويع الديمقراطية لحسابات الهيمنة.
معظم الناس، للأسف، أصبحوا يعتقدون أنه لا خلاص من الفساد سوى بالخلاص من الديمقراطية كما يصر الفاعلون الرئيسيون على ممارستها اليوم. حالة من الرفض الشامل والإدانة الشاملة واليأس الشامل من أن يروا الحل يخرج من بين أسمالها البالية. عشر سنوات من الانتقال الديمقراطي نقلت الناس للضفة المقابلة للديمقراطية للأسف. هذا أكبر فشل يمكن تحقيقه في عقد وحيد من الزمن.
عندما نقول "رجل الشارع" (الذي ننظر من زاويته هنا للأمور)، فإننا نقول (باختصار قابل للنقاش) قيس سعيد. ينتظر الرجل هذه اللحظة بفارغ الصبر، وفي انتظار ذلك فإنه يستفيد من تعفين الوضع، دون أن يصرح (خارج التعبير عن المزاج الشعبي) بحلول ما. احتكار الرجل لتأويل الدستور ووقوفه ضد أي تغيير في الوضع يفقده هذا الإحتكار، دليل على أن ما يهمه هو فقط الإستفادة من أخطاء الانتقال الديمقراطي ومن خطايا خصومه. نحن هنا بحضور وعد واضح بالإجهاز على الانتقال الديمقراطي، دون أن تقدم لنا أي أفكار عن البديل الذي يفترض تركيزه عوضا عنه. لست أدري، مع إقراري بأن الانتقال الديمقراطي قد وصل نهايته، إن كان من الحكمة مساندة رئيس يتمثل كل برنامجه في رفض الشهد الحالي، في حين أن الأمر يتطلب منه تقديم تصور وبديل له.
إلى أين يأخذنا الرئيس؟ ما أصبحت واثقا منه، ومن خلال المؤشرات المتواترة، هو رغبته في السيطرة على كل المؤسسات، وانعدام أي رؤية موضوعية لديه لسبل تحسين الوضع. هذا يعني ببساطة أن الأمر لن يتجاوز ترسيخ حكم فردي بلا مضمون إجتماعي وبلا رؤية إقتصادية والأدهى من ذلك، في سياق نظرة ثقافية واجتماعية محافظة لم تنتج، تاريخيا، سوى المأساة تلو الأخرى.
الديمقراطية كما تطبق اليوم ليست الديمقراطية التي نريدها جميعا. ولكن في حين يذهب معظم الناس إلى إلقاء الرضيع مع ماء الغسيل، فإن قلة فقط بإمكانهم توقع أحداث اليوم الموالي: ماذا بعد أن يتم الإلقاء بماء الغسيل وبالرضيع؟ لا تنمية ولا إصلاح، ولا ديمقراطية. ما سيحصل هو أن الإجهاز على الديمقراطية، حتى في حدها الأدنى، سيفقد الناس القدرة حتى على طرح الأسئلة.
هذه الديمقراطية اليوم فاسدة، ولكنني لا أفضل عليها إستبدادا كل برنامجه هو الهيمنة وانعدام القانون، أي انعدام أي حقوق.
منعرج اليوم خطير، ولا أحد يدري كيف ستتطور الأمور، في أي اتجاه وبأي نسق. لكن الأخطر من هذا المنعرج هو أنه يتم في حضور قوتين أساسيتين فاعلتين تعمق إحداهما الديمقراطية الفاسدة، وتأخذ الثانية الفساد ذريعة للقضاء على الديمقراطية في أصلها. هناك مجال فارغ بين القوتين، وهو مجال كل المقتنعين بأن الانتقال الديمقراطي قد وصل مداه، وأن أي حلول يبحث عنها خارج السياق الديمقراطي ستنتهي بنا جميعا إلى ما هو أتعس من الديمقراطية الفاسدة: الإستبداد الفاسد (لأن كل استبداد، بالضرورة، فاسد).
هؤلاء لا يجب أن يخضعوا للابتزاز الذي يمارس عليهم اليوم من القوتين المذكورتين: عليهم أولا أن ينضجوا الفكرة التي ستجمعهم والتي تمثل الوعد الوحيد الممكن بالإنقاذ: الديمقراطية بلا فساد (تلك التي تكون قادرة على إطعام الناس وإكسائهم ومنحهم كرامة متساوية) وقوة القانون والدولة بلا استبداد.