هشام جعيّط من صنف " الرجال قليل".. مفكّر استثنائي وصاحب موقف.. يقرأ كثيرا ليكتب قليلا.. فإذا كتب كان ما يكتبه حَدَثًا.. كانت تبلغنا أصداء دروسه من أصدقائنا بقسم التاريخ من كلية الآداب.. وبدأنا ننهل من كُتبه.. وكلّما قرأنا له طلبنا منه المزيد.
بدأت رحلتي مع هشام جعيّط منذ كتابه الحدث (الفتنة الكبرى، جدليّة الدين والسياسية في الإسلام المبكّر ) بترجمة اللبنانيّ خليل أحمد خليل ثمّ سعيت وراء جميع ما كتب من قبلُ ومن بعد.. ووجدتُ في ثلاثية السيرة النبوية: الوحي والقرآن والنبوّة، ومحمّد في مكّة وتاريخيّة الدعوة المحمّديّة ومسيرة محمّد في المدينة وانتصار الإسلام، ما خرج بالسيرة النبوية من الكتابات التبجيليّة التي تغلّف وقائع التاريخ بغلاف المقدّس المعيق من الفهم والتفكير وتمنّيت لو أنّ المبشّرين بالخطاب الديني تركوا مرويّات ابن هشام وابن اسحاق ليقرأوا تاريخ السيرة متسلّحين بالعلوم الحديثه وفتوحات المعارف.. ولا أزال مقيما عند أمنيتي..
وقرأت للرجل حوارات كشف بها عن عميق فكره وصرامة منهجه وسعة اطّلاعه وكبير إفادته.. ولا تقلّ مقالاته عن ذلك فائدة.. أذكر أنّني كنت أتابع مجلّة عنوانها اليوم السابع يصدرها بعض الفلسطينيين بباريس بتمويل من الرئيس
العراقي الراحل المرحوم صدّام حسين،
كانت اليوم السابع تنشر لكبار الكتّاب العرب مقالات بصفحتها الأخيرة.. محمد عابد الجابري وحسن حنفي وإميل حبيبي، وكان هشام جعيّط من بين هؤلاء وكان له بها مقالات فذّة… ولمّا ضُربت العراق واجتمع عليها الشقيق مع الغريب توقّفت المجلّة وخسرنا منبرا نلقى به كتّابا كبارا نتعلّم من أقلامهم.
منذ ثلاث سنوات حضرت ندوة بمناسبة ذكرى الثورة التونسية بأحد نزل العاصمة.. كان من بين الحاضرين الكبير هشام جعيّط.. قدّم مداخلة دسمة تحدّث فيها عن الثورة وقارنها بالثورة العبّاسيّة والثورة الفرنسيّة.. قال إنّها ثورة وإنّها عظمى رغم ما يبدو من بطء المطلب الاجتماعيّ الذي قامت لأجله.
هشام جعيّط كبير.. ولكنّ بلادنا لا يعنيها الكبار لأنّ القائمين على الأمور فيها من صنف الصغار.. والصغير يحتال لإخفاء الكبار حتى لا يرى الناس صِغرَه وصَغارَه.
رحم الله هشام جعيّط.. مضى وترك في الدنيا دويًّا فكريًّا وفائدة لا تموت.