محاولة فهم
قيل: البليغ من إذا وجد كثيرا ملأه، وإذا وجد قليلا كفاه.
وقيل: البلاغة دنوّ المآخذ، وقرع الحجة، والاستغناء بالقليل عن الكثير.
وقال بعضهم: إنى لأكره للإنسان أن يكون مقدار لسانه فاضلا عن مقدار عقله، كما أكره أن يكون مقدار عقله فاضلا عن مقدار لسانه وعلمه.
• قيس سعيّد من ذلك النوع الذي يسمع صوته فيطرب لسماعه ولا ينتبه إلى خواء المعنى الذي فيه… وهو مولَع بالإبهار… إذ عندما يتكلّم يستهدف إبهار سامعه لا إقناعه… لأنّه لا يملك ما به يقنع… لذلك إذا تكلّم انتفخ الخطاب وضمر المعنى وبان سراب المقاصد…
• كان يدرّس السنة الأولى من شعبة الحقوق… وكان مطلبه من تدريس الطلبة أن يبهرهم… كانت الخطّة أن يستدعيَ لهم من برنامج البكالوريا التي اجتازوها اسماء من قبيل "المعرّي" ورسالة الغفران والمتنبي وكافور الإخشيدي، وتلك أسماء يعرف أنّ للناجحين في البكالوريا معها ثأرا في النفوس دفينا… هو يرى في الوافدين على كلية الحقوق من شعبة الآداب ناجين لا ناجحين قد أرّقتهم تلك الأسماء وأرهقتهم، لذلك لا ينصرف معهم إلى درس القانون بل يدخل بهم في تصفية حساب مع تلك العناوين كأنّه يقيم لصالحهم مراسم عمل ثأريّ…
• يستدعي تلك الأسماء لأسماعهم حتّى يثبت لهم سيطرته عليها وتمكّنه من ترويضها وهي التي كانت تمثّل عقبات في طريقهم إلى الجامعة… وكان يستعين عليها بصوت جهوريّ يجلب إليه الأسماع فيدخل الطلبة بصوته في تيه يقفون أمامه مشدوهين يتّهمون أنفسهم أن لم يفهموا عبقريّة أستاذهم… ويغيب عنهم أنّ أستاذهم صوت أجوف ولا معنى يُمسَك.
• وتمضي السنة ولا يبقى في أذهان الطلبة غير صدى الصوت القادم من حنجرة الأستاذ… قد يكون ذلك تفسيرا لما يبدو من استدعاء الأستاذ العبقريّ لبرنامج البكالوريا آدابا في خطاباته ومن قبلُ في دروسه… ويبدو أنّه يعدّ نفسه لذلك إعدادا بتوسيع اطّلاعه على أسماء أخرى من برامج المرحلة الثانويّة يطعّم بها أقواله، من قبيل كتاب ابن المقفّع كليلة ودمنة دون أن يبذل جهدا في ميز دبشليم الملك من بيدبا الفيلسوف.
• أمّا عن علاقته بالدستور فإنّها تعكس علاقته بالمسار الذي تعيشه البلاد، وهي علاقة متوترة… ذلك أنّ المسار حصاد أجيال تراكمت جهودها… وقد استفاد هو من ذلك الحصاد دون أن يساهم فيه بفكرة واحدة أو بجملة واحدة أو بموقف يُحسَب له أو بقولة "لا" قالها لمنظومة الفساد والاستبداد التي رافقته طوال عمره واستغرقت شبابه كلّه وكهولته… لذلك فهو يسعى حثيثا لترذيل الخلاصة حتّى ينسف معها مقدّماتها التي أدّت إليها… وهنا تتنزّل دعوته إلى العودة إلى دستور سنة 1959 الذي يراه أرضا لا وارث لها ولا ينازعه عليها أحد.. ويحسب أنّه قادر على استصلاحها لنفسه.. وفي هذا السياق نفهم رغبته في العودة إلى دستور 1959 التي تتضمّن إدانة واضحة لدستور 2014.
• قيس سعيّد لا عقل لا يعمل… ولا كلام يدلّ… وليس له من شيء موقفٌ… ولا يملك شجاعة تجعله يدافع عن موقف حتّى النهاية… وليس شجاعا من يصرخ بأنّه مشروع شهادة وينسخ صراخ الشهادة بإشاعة أخبار استهدافه بالاغتيال في البلاد وأمام العالَم … غير أنّ مخالفيه يرهبون فيه مقام الرئاسة الذي استوطنه وينسون أنّ الرئاسة ثوب فضفاض لا يناسبه.
• كيف وصل إلى كرسيّ الرئاسة؟ الأمر يحتاج إلى معطيات واضحة تفسّر حصول معجزة لا تتحقّق لنبيّ.. الثابت أنّ واجهة النظافة واتت أفق انتظار شرائح واسعة من الشعب التونسي ضاقت بنخب سياسية توزّعت بين فاسدين وعاجزين، فكان هو المجهول الذي رمى الشعب نفسه فيه بكلّ سذاجة مثل هؤلاء الذين يلقون بأنفسهم في قوارب الموت هربا من جحيم الحياة..
• لسنا نلوم الشعب ولكنّنا نلوم أحزابا لها في مجال السياسة عشرات السنين وقعت وأوقعت مناصريها بين براثن شخص مسكون بعداء الثورة وكره الديمقراطيّة والضيق بالحريّة ورفض الاختلاف.