إذا اشتبهت دموعٌ في خدود / تبيّن مَن بكى ممّن تباكى
- أبو الطيّب -
عُمَرُ المتنُ:
أعرف أنّ من بين القرّاء من يميل إلى اعتبار عمر بن الخطّاب شخصيةً وهميةً صنعها خيال معتلّ في أزمنة الاستبداد الطويلة.. كان لا بدّ من مَثَلٍ يصنعه الناس بالأقوال وقد اختفى من دائرة الأعمال في تاريخ عربيّ استبداديّ كان ورشة كبرى لسحق الإنسان.. مثل يقول إنّ شمس العدل ممكنة البزوع في ليل الظلم الطويل.
ولأنّ ثقافتنا عليلة فقد جعلت العدلَ كلَّه في شخص، الشخص مات من زمن بعيد كما يموت كلّ إنسان، ولكنّ العدل صحبه إلى قبره ودُفن فيه معه، حتى اطمأنّ الناس إلى قولة "مات العدل مع عمر".
مات عمر التاريخيّ والموهوم وما بقي منه سوى كلام يتداوله التائقون إلى الحرية والعدل ووقائع سيرة يغلب الخيال عليها. ولأنّ الموتى إذا دُعوا لا يستجيبون فإنّ عمر يوشك أن يكون عائقا يحول دون أن يكون العدل مؤسّسةً تتجاوز الأشخاص ولا تقف عند ما يروى من أقوالهم وما يُحكى من أعمالهم. ولعلّ ما يثير الريبة فعلا أنّ الشخصية الثانية التي عُرفت بعدلها، في تاريخ العرب، كان اسمها عمر.. حتى صار لا عدل إلّا ما كان عمريّا.
كان عمر يحكم من المدينة المنوّرة حين قال قولته "لو أنّ بغلة عثرت بالعراق لخشيتُ أن يسألني الله يوم القيامة لِمَ لمْ تعبّد لها الطريق يا عمر؟".
كانت رقعة الحكم مترامية وكانت الراحلة هي البغلة، وكان على عمر أن يكون مطّلعا على شؤون رعيته يقضيها لا يترك منها شيئا.. كان يعلم أنّ الحكم مسؤولية ثقيلة ثِقَلَ الأمانة التي وُصف حاملُها الإنسانُ بأنّه ظلوم جَهول.. كان عمر يتحدّث عن عراق مفتوحٍ حديثا في سياق صراع دولته مع الامبراطورية الفارسية الساسانيّة، وكان يعلم أنّ سياق الحرب لا يخلو من مؤامرات يتآمرها الأعداء لإيقاف زحف دولة جديدة صاعدة كان هو رئيسَها..
كان عمر يعلم كلّ ذلك وكان يمكن أن يكون شعبويّا.. والشعبويّة لا تعدو الرياء في الثقافة القديمة.. كان يمكن أن يجلس على عرشه حيث هو، يكتفي من الحكم بالخُطَب، يأمر وينهى ويتوعّد ويرسل رسائله مع صاحب البريد ويدبّج مراسيمه ويتوجّه بالتهديد إلى الناس حتّى ينشر فيهم خوف سلطانه يختزل فيه كلّ القانون، ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة. ولكنّه لم يفعل من ذلك شيئا وقال قولته تلك. وهي قولة بيداغوجيّة سياسيّة قالها في تعليم الناس كيف المسؤولية، فالحاكم الذي يملك السلطة يحمل وحده كلّ الوزر، من ذاك يأتي سؤاله الذي يخشى أن يُسألَه يوم القيامة. يلحّ عليه سؤالُ القيامة فينشغل بتسوية طرقات العبور في مدن الحياة الدنيا.
عمر الهامش في مرحلة المراودة:
الحاكم بأمره تمثّل بقولة عمر يوم الأربعاء 22 جويلية 2020، قال وقتها إنه يقتدي بالفاروق عمر بن الخطّاب الذي لا يتردّد في قول الحق والاستماتة من أجل الحق والعدل، وجعل من بغلة عمر منهجه في الحكم حتّى لقد خشينا عليه من مصير عمر.. عمر عدل فأمن فنام، كما يحلو للرواة أن يقولوا، ولكنّه قُتل وهو يؤم المؤمنين في الصلاة.
عمر الزائف في مرحلة التمكّن:
غير أنّنا، بعد إشفاقنا عليه اطمأننّا عليه. فلقد نسي النسخةُ البغلةَ ونسيَ تسوية الطريق لها.. ونسي السؤال المخشيَّ فيهما.. ذهب عن عمر رَوعُه وتجرّد من خشيته من سؤال الطريق.. فلقد تحدّث بلسانه، يوم 25 سبتمبر 2023 عن حوادث الطريق، فقال:
"ثم هناك مسألة أخرى وتتعلق بحوادث المرور في تونس التي استفحلت نتيجة لجملة من العوامل المعروفة والتي تبرَّر عموما بأنّها تتعلّق بحالة الطرقات وبحالة السيارات إلى آخر ذلك، ولكن الأمر لا يتعلق بهذه الظاهرة من هذا الجانب فقط.. تونس تحتلّ المراتب الأولى في العالم وفي وقت من الأوقات كانت في المرتبة الأولى.. ليس نتيجة لحالة الطرقات ولا السيارات ولكن نتيجة لثقافة معيّنة سائدة داخل المجتمع. هناك أسباب موضوعية ولكن هناك أسباب عميقة لا بدّ من التركيز عليها وهي أن السائق ومستعملي الطريق بوجه عام يعتبرون أنّ الطريق التي يسيرون فيها هي ملك، كما يقولون، للحاكم وكأنه حينما يتجاوز القانون يعتبر انه تجاوز الحاكم.. باللغة العامية الحاكم جاء وربما تذكرون وبالتأكيد تذكرون والكثير يذكر ذلك كيف أنّ التونسيين بعد الرابع عشر من شهر جانفي من سنة إحدى عشر (هكذا) وألفين كانوا يحترمون قواعد المرور بل كلّ طرف يبجّل الآخر لأنهم تصالحوا مع الفضاء العام.. فهذه المسألة التي يجب التركيز عليها في هذا المجال.. المشكل يتعلق بعلاقة المحكوم بالحاكم بهذه الثقافة السائدة.. يجب أن يعتبر المواطن أنه يمتلك تلك الطريق .. في نطاق احترام القانون.. الأمر يتعلق ليس بالفحص الفني ولكن بالفحص الفكريّ.. بالعلاقة التي يجب أن تتغير بالتصور للعلاقة مع الفضاء العام ".
حرصتُ على نقل الفقرة كاملة، على علّاتها التعبيريّة، حتّى لا أفسد الاقتباس. وحتّى يتّضحَ ما بين العمرين من مسافة في المنطق واللسان.
هذه هي النسخة الجديدة لحاكم عربيّ لا يعترف بأنّه بشر يجري عليه ما يجري على الناس من خطأ وتقصير ومن سوء تقدير.. ولا تليق به المساءلة من الله ولا من الناس، والناس عيال الله.
حوادث الطريق كثيرة وضحاياها كثيرون، غير أن حديث البغلة تبخّر لتحلّ محلّه إدانة للذين استغلّوا الطريق ليجعلوا منها مجالا لعملياتهم الانتحارية.. لقد اختاروا أن يموتوا في الطرقات نكاية في الحاكم. ضحايا الطرقات، هؤلاء، ينتحرون لأنّهم لا يحترمون القانون، إذ القانون هو الحاكم الذي لا يحبّون أن يتصالحوا معه. فيفضّلون موتهم على تصالحهم معه والقبول بما خطّ لهم من طريق.
ولو أنّنا ترجمنا قولة عمر المرويّة تلك بحسب ما ورد من منطق هذا الخطاب لرأيناه يقول: لو أنّ بغلة عثرت بالعراق لعجّلتُ بفحص فكر راكبها.. ولعاقبته على عدم احترام القانون، ولأودعته السجن لأمنعه من ركوب.. ولقطعت عليه طريق انتحاره.
وبعدُ، فلقد كان عمر التاريخيّ لحظة خطابيّة استعملها حاكم عربيّ يتاجر بالدين يأكل به الدنيا وهو يتحدّث عن الحق والخير والعدل دون أن يبذل فيها أيّ جهد.. ويختزلها في نفسه كأنّه اصطفاء سماء.
لقد عثرت البغلة لأنّ عمرا لم يعد يُسأل عن طريق، وضاعت لأنّ" الجمل لا يرى اعوجاج عنقه".
ما يفعله الحاكم العربيّ بشعبه في زمان الحريات وحقوق الإنسان يجعلني أكثر ارتيابا في شخصية عمر المرويّة تلك التي صارت عقبة في طريق العدل. وسيظلّ العدل مستحيلا ما دمنا نراه في عمر منتَظَرٍ يأتي يملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جَورا.
الشعوب تنتظر.. والانتظار مغيّب للعقل. وكلّما غاب العقل تسلّل من غيبته محتال يرضي الناس بحديث ليل إذا طلعت عليه شمس النهار ذاب.
وكلّ الغش بالشمس يذوب.
ومن غشّنا فليس منّا.