خرج الشعب ضدّه وقالت له الجموع بصوت واحد: الشعب يريد ما لا تريد.. وأصدرت عليه حكمها النهائيّ وطالبت بعزله بكلّ وضوح، فهل سيحترم نفسه ويستقيل؟
لا أظنّ ذلك، بعد أن خبرنا طبع العناد الذي فيه.. عناد بن علي من قبله نفهمه من خلفيته العسكرية الأمنيّة ومن أميته وعطالة عاقلته ومن رسوخ قدمه في الحكم الذي ظلّ مستوليا عليه ربع قرن من الزمان فاستمدّ منه قوّته.. فكيف نفهم عناد هذا وهو الحادث على الشأن العام وعلى الحُكم كليهما؟
يبدو أنّ له عنادا جِبِليًّا منعه حتى من استكمال دراسته.. ولم يجد من دعوى يدّعيها لتفسير ذلك غير قوله بسرقة بحثه منه بعد أن وجد نفسه في أسفل سلّم زملائه.. فهل يؤتمن من عجز عن الاحتفاظ ببحثه على دولة بأكملها؟
لن يستقيل وسيجد ما يصف به الجموعَ التي تظاهرت ضدّه وطالبت، بصوت واحد، بالتعجيل بعزله.. ولن تسعفه اللغة بغير ما حفظنا من رصيده المحدود منها.. وسيحرّض دراويشه على التظاهر للدفاع عنه وعن نبوّته التي لم تتجلّ.. وسيتظاهرون.. ولن يجدوا ما يدافعون به عنه غير "بالروح بالدف نفديك يا رئيس" و"الشعب يريد حلّ البرلمان" و"حطهم في الحبس الكل سيّد الرئيس" وسيهون عليهم أمرهم فيعيدون مشهد حرق الدستور وربما يحرقون معه العلم... وسيفرغون لمعجمهم البذيء الذي لا معجم لهم سواه.. سيسمع الناس كلاما نابيا قبيحا وستحتل المعاجم السفلى منصّة الخطاب وسيجد التونسيون أنفسهم محمولين على غلق أجهزة البث لأنّ شعارات الأنصار لا تليق بالمدينة.. ولا بأدب العاقلين بها.. ولا بالأخلاق العامّة.
وسنجد أنفسنا أمام شعبين: شعب الرئيس وشعب معارضيه.. فما الحلّ وقتها؟ هل نقضّي المعمر بين مظاهرة عليه وأخرى له؟ إلى متى؟ هل يرضي ذلك الرئيس؟ هل يشبع غروره؟ هل يرضي تظاهر أنصاره كبرياءَه الذي جرحه خصومه بحدّ جرأتهم عليه؟
لم يعد له من سلاح غير عناده الذي جُبل عليه.. وبعناده سيزيد من تقسيم الشعب وتقطيع الأوصال وتمزيق الأرحام.. وقد تدخل البلاد بسبب عناده في احتراب أهليّ، لا قدّر الله.. ولكن، حتى لو كان له ما أراد فلن ينتهيَ الأمر إلّا بمائدة حوار مع معارضيه داخل البلاد أو خارجها.. سيأتي إلى الحوار، مرغَمًا، في جميع الأحوال.. ولن يجد له مفرّا خاصّة بعد أن وقف في وجهه جميع العقلاء ولم يبق له من توابع غير العاجزين والفاسدين والخائفين والمستطيعين به والعاملين عليه.