نفترض أنّ النهضة، حزب الإسلام السياسيّ، قد حكمت تونس بفردها طيلة العشرية السابقة.. ونفترض أنّها مسؤولة عن مشاكل تونس ومختلٍف دول الإقليم والأقاليم المجاورة وهي وراء الأزمات التي تعاني منها كافة دول العالم المرئي والعالم اللامرئيّ.. ونفترض أنّها وراء انتشار فيروس كوفيد ووراء تعطيل اللقاحات وهي المسؤولة عن كثرة الضحايا لا في تونس وحدها، بل في جميع قارات الكرة الأرضيّة.
نفترض كلّ ذلك وأكثر… ولكنّ المواطن التونسيّ كان يسافر من بنقردان إلى بنزرت ويقفل راجعا وهو آمن مطمئنّ لا يخشى حتّى الذئب على غنمه… وكان المواطن التونسيّ يستخرج جواز سفره ويبتاع تذكرة السفر ويسافر إلى حيث شاء متى شاء في حدود ما تسمح به قوانين الدولة التي يعتزم السفر إليها.
وكان المواطن التونسيّ يقبض جرايته في موعدها وربّما قبل موعدها ولا ينتظرها حتى يتلوّن وجهه بمختلف الألوان بسبب عجزه عن شراء طعام أبنائه وتوفير الدواء لهم إذا مرضوا. كانت جميع السلع متوفّرة رغم شحّ المال لدى أغلبية الناس.
• كان الدواء في الصيدليات موجودا
• كان السّكّر متوفرا
• كان السميد متاحا
• كان الزيت في الأواني
• كانت الحياة ممكنة
كانت ألفة يوسف تستنفر ما أوتيت من مقذعات بلاغتها ولا أحد من الحكّام يلتفت إليها أو يحتجّ على مشاتماتها ولا تُضطَرّ إلى أن تتلجلج مخافة أنّها "تمشي تبحث"… كانت ليلى طوبال لا تجد من يغدر بها مهما قالت ومهما فعلت… كان الصادق بلعيد وأمين محفوظ يقولان ما شاءا دون أن يخشيا على نفسيهما إمكان غضب الذي بيده الأمر عليهما.
كان زهير المغزواي يرجم الإخوان وينسب إليهم أجهزة الإنس والجنّ السريّة ولا أحد يقف له في الطريق.. وكانت تبلغ به الوقاحة أن يُجلس ضيفه الغنّوشي تحت صورة إمامه عبد الناصر نكاية في تنظيم الإخوان العالميّ.
كان الاتحاد العام التونسيّ للشغل مساحة حرّة لكلّ زاعق، وناعق، وناعب، وسائب.. ولكن لا أحد من هؤلاء كان يخشى على نفسه أو أهله أو رزقه. كانت الشجاعة أكواما مكدّسة يستوي فيها القائم والقاعد والزاحف على بطنه والذي على جنبه…
كان الدستور مكتوبا يقرؤه الجميع ويحتكم إليه الفرقاء حتّى أولئك الذين يهاجمونه في الصباح وفي المساء. كانت الحرّيات معيشة والآمال ممكنة وعجلة الحياة تدور رغم البذاءات ورغم الردّاحات والنوّاحات.. ورغم الجدران المبنية على السكك الحديدية.
حركة النهضة حزب سياسيّ..
دينيّ؟
فليكن.. ولكنّه صان الحريات وحقّق الأمن بلا منّ.
رجعيّ؟
فليكن.. ولكنه حافظ على غذاء الناس ووفّر لهم دواءهم ولم يمنعهم حقّا هو لهم.
تقول لي: ذاك ليس بفضل النهضة؟
أقول لك: امش (….) املأها بما يناسبك…
هذا ليس كلامَ عاقل..
العقل لا ينسب إلى خصم كلّ شرّ وينفي عنه كلّ خير.. الشرّ والخير لا ينفصلان… إمّا أنّ النهضة كانت تحكم وهي المسؤولة عن كلّ خير وعن كلّ شرّ. وإمّا أنّها لم تكن تحكم ولا مسؤولية لها عن شيء. نسبة الشرّ إليها ونفي الخير عنها كلام معناه ليست لنا عقول.
لو خاصمتم النهضة بشرف لغلبتموها بالحقّ، ولكنّكم عبيد الظلم ومساحات ظلام. ستظلّ ديمقراطيتكم التي بها تحلمون مشروطة بالنهضة تحميها لكم منكم لأنّكم لستم ديمقراطيين… حتّى بالأماني لستم ديمقراطيين. عقيدتكم الديمقراطية مدخولة لأنّها إقصائية استئصالية كسولة تجزم بأحكام جائرة جاهزة ولا تتساءل عن أمر سلّمت به واطمأنّت إليه.
النهضة ليست خيرا محضا، ولكنها ليست شرّا صرفا… وكلّ استبعاد لها إنّما هو إبعاد للديمقراطية من مجالنا التونسيّ. لن أدعوَكم إلى المصالحة مع النهضة، بل أدعوكم إلى المصالحة مع الديمقراطية .
هذا إن كنتم تظنّون أنّها طوق نجاة لهذا الوطن الجريح.