أيّ مسار؟ وأيّ تصحيح؟ ومن هو حتّى يحمل مشروعا لتصحيح مسار سياسيّ معقَّد؟ ومن الذي كلّفه بتصحيح المسار؟ خطاب المعصومين هذا أهلك بلادَ العرب منذ أن صار الحاكم يرى في الحُكم ثوبًا ألبسَهُ إيّاهُ اللهُ.. أو الشعبُ…
بمنطق الإنقاذ جاء الانقلابيون على إرادات الشعوب.. وبمنطق التصحيح انقلب انقلابيّون ثوانٍ على المنقلبين الأوائل.. وبمنطق الجديد استولى بن علي على ميراث بورقيبة.. وبمطق الانفتاح خلف أنور السادات جمال عبد الناصر.. وبمنطق استمرار الممانعة ورث بشّار الأسد والده حافظًا… فلا أُنقذت الأمّة يوما ولا صُحّح لها مسار ولا جُدّد لها عهد..ولا عرفت انفتاحا ولا كانت لها مناعة…
كلّما جاءت في بلاد العرب أمّة لعنت أختها وانشغلت بزرع لعنات تظلّ تلاحقها بعد غيابها.. كأنّ الأمّة استولت على لعنات التاريخ والجغرافيا كلّها…
أن تعيش البلاد صعوباتٍ متراكبةً بسبب أحزابها المبتذلة وسياسييها السطحيّين ومثقَّفيها الأدعياء ونقابيّيها الجَهَلة ومسؤوليها العاجزين، لا يعني أن تُسلم أمرها لرئيس انتخبه شعبها، في لحظة بهتة، ليكون، حسب الدستور حَكَمًا فانتصب متحكِّمًا.. ومن حوله عصابة خفيّة تتناهش القصر وما حوله كأنّ البلاد باتت مزرعة بأيديهم ورثوها عن والديهم…
ما يروج من صراعات داخل القصر لا يبشّر بتصحيح شيء.. والأسماء المتداوَلة لا تصلح لتصحيح ما بأنفسها… المسار يصحّحه مسؤولون ديمقراطيّون يؤمنون بقيمة الحرية ويحترمون التعدّد ويقدّرون المختلف…
المسار يصحّحه مسؤولون عقلاء لا ينخرطون في ابتذال مفضوح لترذيل السياسة وتشويه الأحزاب وتنصيب أنفسهم كما لو كانوا رسلًا بعثتها السماء لتصحيح مسار الأرض.. هذا ابتزاز رخيص وانتهاز للأوضاع مبتَذل…
أيّ مسار؟ وأيّ تصحيح؟ ومن هو قيس سعيد ليقود التصحيح؟ من الذي صحّحه هو قبل أن ينتصب مصحِّحًا؟ المسار الذي لم يصحّحه الباجي قايد السبسي ومن قبله المنصف المرزوقي، هل يصحّحه قيّس سعيّد؟ هل عصمته الآلهة لتصحيح مسيرة البشر؟
الأحزاب في جميع دول العالم مختلفة بل متناقضة على قدر ما بين المواطنين من اختلافات في الأفكار ومن تناقضات في المواقف.. ومن يحتقر الأحزاب يحتقر الشعب الذي نشأت فيه.. أمّا حجّة الأصوات الانتخابيّة التي يتّخذ منها قيس سعيّد وتوابعه سيفا يسلّطه على رقاب الناس فهي أصوات لحْظيّة راكمتها مناسبة عابرة وملابسات معلومة وبهْتة انتخابيّة عاشتها البلاد.. وأكاد أجزم أنّه إذا تقدّم إلى انتخابات أخرى لن يحظى بأكثر ممّا حظِيَ به من كانوا في آخر ترتيب الدورة الأولى من المترشّحين لرئاسة الجمهوريّة…
وكثير من برلمانات العالم تشهد أكثر ممّا يشهده برلمان بلادنا من صراعات ومناوشات.. وليس من المعقول استغلال الهرج الذي نشهده بالبرلمان ذريعة للانقلاب على المسار بدعوى تصحيحه…
وفي العالم دول تعيش تعقيدات سياسية صاخبة وتمضي عليها الشهور وهي بدون حكومات.. ولكنّنا لم نسمع أنّ مواطنا من تلك البلاد انتُخب ليكون رئيسا فاستولى على سلطات ليست له وقدّم نفسه حاكمًا بأمره ينفرد بالهدى ويرمى غير بالضلال.. هذا هراء وشعوذة…
الطريق الذي يسلكه رئيس الجمهورية المنتَخَب قد يؤدّي بالبلاد إلى كوارث إن لم يلق تصدّيًا لجموحه وردّا لجنوحه وعقلا لشهوة السلطة المستولية عليه وعلى الذين من حوله… بلادنا تعيش مسارا سياسيا تجريبيا ومناخا ملوَّثا وصراعا متواصلا لتعديل ميزانها وتحرير ديمقراطيتها ودفع عجلة اقتصادها…
ديمقراطيتنا تحتاج عناية موصولة ومراقبة مستمرّة وتصويبا مرافقا تكون بمشترك أدنى يلتقي الفرقاء عليه، ولا تحتاج معصوما ينسف العمارة لأنّ في رأسه عمارة بديلة لم يحدث أن سكنها من الناس عاقل.