لك أن تعاديَ حركة النهضة ومن ورائها حركات الإسلام السياسيّ جميعها.. ولك أن تقول في منتسبيها ما تشاء وألّا ترى مِن وزرائها من يليق بالحكم... ولك أن تدوعوَ عليهم بأن تصطفيهم الجائحة قتلى لها... ولك أن تقول إنّ القائد العسكريّ لا ينبغي له أن يبكيَ في أثناء الحربِ والجيشُ يقاتل لأنّ بكاءه قد يضعف معنويات جيشه.. وأمثال عبد اللطيف المكّي النهضاوي لا يصلح للقيادة وليس أهلا لأن يطاع…
ولك أن تقول إنّ الرجل يغطّي على عجزه وعلى قلّة حيلته بدموع التماسيح يذرفها.. وبدل أن يبكيَ كان عليه أن ينجز.. ومادام بلا إنجاز فلا معنى لدموعه يذرفها ليُحبط الناس... ولك أن تقول: نريد حكّاما ينجزون ويمسحون دموع الباكين لا حكّاما يبكون أو يتباكون... ولك الكثير ممّا تريد.. وممّا لا تريد. قل ماشئت من ذلك ومن غيره…
ولكن…
تعال معي إلى كلمة يمكن أن أقولها وتسمعها وتفهمها.. وإلى رقعة من التراب يمكن أن نقف عليها معا بعد أن يغمر الماء اليابسة ولا يكون لنا من ملاذ غيرها.. أنا لا أحب إثارة عاطفتك لأنّي قد أفترض أنّك بلا عواطف وقد أظنّ بأنّ المشاعر لا تعنيك لأنّها سلاح الضعفاء وأنت القويّ بعقلك وفهمك... وذلك من مطلق حقّك.. سأفترض أنّك آلة لا يعنيها الشعور.. ولن يزعجني منك ذلك…
بكاء الحكّام ليس بدعا:
كان الرئيس الأسبق المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة باني تونس الجديدة ومحرّر المرأة بكّاءً في خطاباته وفي حواراته حتّى مع الإعلاميين الأجانب.. وكان البكاء عنصرا رئيسا من العناصر التي تكوّن خطابه.. وجزءا من نسيج شخصيته به عرفه التونسيّون الذين عاشوا عهدَه... ولقد بكى الرئيس الدكتور منصف المرزوقي في أكثر من مناسبة... وبكى الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في وداع القائد العسكري قايد صالح…
ورأينا قائد الانقلاب العسكري عبد الفتاح السيسي يبكي لكلمة ألقتها الفنّانة رجاء الجدّاوي بين يديه... حتّى العسكر يبكون…
وفي الجائحة بكاء:
وقد ظهر رئيس وزراء إيطاليا، جوزيبي كونتي، وهو يبكي في أثناء تصريح له بشان ما آلت إليه أوضاع بلاده بسبب فيروس كورونا الذي سحق عددا كبيرا من مواطني دولته... وبكى الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش وهو يعبّر عن خذلان الاتحاد الأوروبّي لبلاده حين تركها وحدها تعاني آثار الجائحة…
ليس بدعا أن يبكيَ الحكّام إذن.. بل لعلهم أولى الناس ببكاء.. فإذا لم يتباكوا تمثيلا بكوا من ثقل الأوزار صدقا وقهرا.. وعجزا.. وتقصيرا…
لماذا بكى عبد اللطيف المكّي؟
الوزير بين عدوّ خفيّ جائحةٍ تنذر بعاصفة موت لا تبقي ولا تذر، وبين شعب لا حول له ولا قوّة وجد نفسه وجها لوجه مع قوّة لا مرئيّة زاحفة لا يملك أن يصرفها عنه.. والمكّي هو المسؤول عن سلامة الناس بعد تسميته وزيرا للصحّة في حكومة بلاده…
رسم الوزير مع طواقم وزارته استراتيجية لمكافحة فيروس كورونا قاعدتُها الحجر الصحّي والتباعد الاجتماعيّ شرطين رئيسين للحدّ من انتشار الوباء.. ولكنّ الناس لم ينضبطوا لقواعد الحجر بسبب عوامل كثيرة منها الحاجة ومنها الملل.. ومنها الاستهانة بتعليمات السلطات الصحيّة... الوزير بعد العمل الطويل والجهد المتواصل يرى خطّة وزارة الصحّة توشك أن تفشل والجائحة يمكن أن تنتصر.. والجهود تضيع.. فهو في وضع أشبه بوضع سيزيف كلّما بلغ باب الأمل جذبته قوّة قاهرة إلى الخلف وصفقت دونه الباب…
عبد اللطيف المكيّ ليس قائدا عسكريا يتناقل الأعداء بكاءه من القهر بسبب هزيمة جيشه أو بسبب خذلان بعض قادته.. والعدوّ ليس ظاهرا يمكن مواجهته بالعدّة والشجاعة والخطط العسكرية العبقرية.. العدوّ فيروس خفيّ ينتقل بالعدوى.. وقد عجزت دول عظمى عن مواجهته فمات من شعوبها خلق كثير ولا تزال تعاني كأنها تدخل نفقا كونيا لا تُرى له نهاية…
في ظلّ التحصينات التي وضعتها وزارة الصحّة أمام الفيروس لتحدّ من زحفه تأذن الحكومة بصرف إعانات للمواطنين لسدّ حاجاتهم فيُحشر الناس ضحى أمام مكاتب البريد.. فتضيع بتزاحمهم جهود الوزارة سدى…
وفي ظلّ الحجر الصحّي العام الذي فُرض بقانون منع الجولان يخرج رئيس الجمهورية من العاصمة إلى مدينة المنستير الساحلية في زيارة لضريح الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة للاحتفال بذكرى وفاته فيجتمع إليه خلق كثير.. كأنّ زيارة الضريح أمر مصيريّ للوطن في ظلّ الوباء المتفشّي…
وفي ظلّ الحجر الصحّي يخرج الناس إلى الأسواق في تقارب اجتماعيّ مخيف يعبثون فيه بشروط التوقّي من الفيروس المميت…
فهل ننتظر من المكّي أن يبكيَنا بعد موتنا وقد منعناه أن يبكيَ تحذيرا لنا من الاستسلام للموت بفعل ما رآه من تهاوننا بحياتنا؟