1.حركات الإسلام السياسي تتمدّد في مناخات الدكتاتوريّة وتتقلّص في المناخ الديمقراطيّ... الاستبداد يرافقه الاحتجاج وهؤلاء احتجاجيّون يصبرون على الاحتجاج ولو طال أمدُه، بل لعلّ أعمارهم من أعمار الأنظمة الاستبداديّة التي تحتلّ البلاد العربيّة تطول بطولها، كأنّ التاريخ قد انتدبهم لتجرّب فيهم تلك الأنظمة، على اختلافها، مختلِف ضروب البطش التي تفرض بها سلطانها أو قل كأنّه عهد إليهم بحماية مناعة الشعوب التي قصر دونها غيرُهم من مختلِف التيارات. ألم تر كيف أنّ القومييّن واليسار، على كراهيتهم الجذريّة للإسلاميّين، يُضطَرّون، في بعض الأحيان، إلى التحالف معهم ويحتمون بهم؟ وتراهم يستندون إليهم إذا اشتدّت عليهم الدكتاتورية ومنعتهم من أبسط حقوقهم الإنسانيّة مثلما حصل في مصر تحت حكم حسني مبارك وفي تونس زمان بن علي؟
أمّا الديمقراطية فتقتضي الإنجاز وهؤلاء الإسلاميّون إنجازُهم ضعيف وأداؤهم سيّء وإرادتهم في التغيير محدودة ولا يملكون تصوّرا للحكم مثلهم مثل غيرهم من الفصائل السياسيّة.. هل نجح تيّار سياسيّ عربيّ واحد في النهوض بوطنه النهوض الذي يحكم له بحسن الأداء وبراعة الإنجاز؟
2. وقد رأينا هذا وذلك جليّا في حالة حركة النهضة في تونس…
لقد حظرها بورقيبة ومن بعده بن علي، ولاحقتها السلطة حتى حُشر أبناؤها في مكانين لا ثالث لهما: المنافي والسجون.. ومُنعوا من أبسط حقوق الإنسان الكونيّة حتّى كأنّهم أُخرجوا من انتمائهم الإنسانيّ. ربع قرن من حكم بن علي لم تكلّ السلطة عن مصادرة حق منتسبي حركة النهضة في الحياة.. لقد سلبوهم كافّة حقوقهم حتّى طُرد التلميذ من مدرسته والطالب من كليته والموظّف من مقرّ عمله والعامل من ورشته.. وحتى فُصل الزوج عن زوجته والولد عن والده.. لقد عمل نظام الاستبداد على تصفية الإسلاميين كما لا يفعل أيّ نظام ميز عنصريّ يُعدم الناس على هويتهم بلا ذنب ارتكبوه غير ذنب انتمائهم إلى فكرة راقت لهم.
3. في الوقت ذاته مُدّ لأعتى أعدائهم أمس واليوم. لقد كان أشدّ خصوم حركة النهضة تحت رعاية السلطة ينعمون بعنايتها ويستظلّون بجناحها تستعملهم مخبرين وتأجرهم على ذلك.. ولنا على هذا شواهد لا تحصى.. ومن هؤلاء الذين استعملهم بن علي في تصفية حركة النهضة غير قليل من المنتسبين إلى حركة الشعب القومية "العربيّة" اليوم- حتّى لا أقول جميع القوميّين في تونس- وإلى حزب الوطد الشيوعي الستالينيّ- حتّى لا أقول اليسار كلّه- الذي تسلّل إلى مفاصل الدولة مثل الروماتيزم فصار يتحكّم في جميع المرافق من نقابة وتربية وثقافة وإعلام واقتصاد يستفيد عناصره ولا يستفيد البلد منهم شيئا كأنّهم أعداء له وظيفتهم هدمُهُ والحيلولة دون تقدّمه..
هذان الحزبان كانا في ركاب بن علي يطعمهما من فتات مائدته من الجهتين: السياسيّة والنقابيّة.. جعل منهم معارضين له ليظهر أمام العالَم بمظهر الديمقراطيّ التعدّدي.. وجعل منهم نقابيين ليظهر بمظهر الذي يعترف بالشريك الاجتماعي في مفاوضة المانحين، استعملهم لذلك دون أن يُعفيَهم من ملاحقة الإسلاميّين في القرى وفي الأحياء يحصون له أنفاسهم وينقلون إليه أقوالهم بعد خروجهم من السجون.. ويتزيّدون، دون أن يغفل عن مراقبتهم هم أنفسهم لأنّه ليس من أحد يطمئنّ طمأنينة مطلقة إلى من رضي لنفسه بأداء الأدوار القذرة.. ومن باع ذمّته لجهة يمكنه بيعُها لغيرها إذا قبض الثمن.
4. ولمّا قامت الثورة وتحرّرت البلاد من سطوة بن علي وجاءت الديمقراطيّة خاض هؤلاء القوميّون وأولئك الشيوعيّون معاركهم الانتخابية ضدّ حركة النهضة فهزمتهم وكشفت خفّة موازينهم وعرّت قلّة أحجامهم وفضحت محدوديّة رصيدهم لدى الشعب التونسيّ... وكشفت هوانهم على الناس... لقد بدوا صغارا في حضرتها... ولم تظهر هي بمظهر العملاق إلّا لأنّهم أقزام.
ولأنّ النهضة تصلح للاحتجاج وتعجز عن الإنجاز فقد كانت تخسر من رصيدها في سنوات الانتقال الديمقراطيّ لأسباب ذاتية وأخرى موضوعية ليس هنا وارد ذكرها..
المهم أنّ هؤلاء الإسلاميين يتمدّدون في أزمنة القمع ويتقلّصون في مناخات الحريات.
5. ولو صبر هؤلاء القوميون وأولئك الشيوعيون على حركة النهضة وتركوها لأخطائها وتخلّوا عن ملاحقتها، كأنّهم ظلّ لها في كلّ شاردة وواردة، ولو أنّهم بذلوا مجهودا أدنى في تنمية أحزابهم وتحسين خطابهم وتطوير أفكارهم لربّما كانوا أخرجوها، أمام إخفاقاتها، من المشهد بالصناديق دون حاجة إلى كلّ هذه العداوات التي سيتوارثها الأبناء عن الآباء وتهدّد بتمزيق المجتمع الواحد.. وتُسلم البلد إلى دورة جديدة من الاستبداد المظلم.
ولكن لأنهم كسالى وبلا عقول ولا قدرة على الفهم ولا إرادة للتطوّر فقد دفعوا باتجاه تحريض سلطة المنقلب على إعادة إنتاج سياسة بن علي ضدّ غريمتهم النهضة بدعوى مسؤوليتها عن عشرية الانتقال الديمقراطيّ ليعودوا إلى ما كانوا عليه في ظلّ بن علي يلتقطون الفتات ويثرثرون في المقاهي.. يأكلون ويشربون ويتناسلون، ويلعنون الزمن الذي يمنع أمّتهم من التقدّم ويهاجمون الاستعمار الذي يحول دون وحدتها ويدينون العملاء الذين فرّطوا في أرض فلسطين فنغّصوا عليهم راحتهم ومنعوهم من مُتعهم.. يصخبون أحيانا في مقرّات اتحاد الشغل وقد وضعوا على أعناقهم الشال الفلسطيني رافعين علامة النصر وهم يتراقصون على أغنية مرسيل خليفة "منتصب القامة أمشى مرفوع الهامة أمشي".. ينصبون قاماتهم ويرفعون هاماتهم "في نخوة واعتزاز" كأنّهم يحتفلون بتحريرهم أرض فلسطين من الماء إلى الماء.
وهل يحرّر فلسطينَ من ينحني للدكتاتورية في بلده ويصمّ أذنيه عن شعبه الذي يجوع ولا يملك أن يصرخ من وجع الجوع ؟
6. قد يسير المنقلب في طريق استيهاماتهم فيحلّ لهم حزب النهضة وربما يعيد بعض سيرة بن علي مع قياداتها... ولكن المنقلب ليس هو بن علي ولا يملك شرطا من الشروط التي ساعدت بن علي على الاستمرار والاستقرار... وإن هو فعل فستعود حركة النهضة إلى مربّع الاحتجاج الذي تتقنه صمتا وصوتا وستتخفّف من أعباء السلطة وتتطهّر من أخطائها وتسترجع أنفاسها وتستردّ ما أضاعته تحت قصف الإعلام وتشويه الخصوم... وقد تشهد تطويرا لنفسها عجزت عنه تحت مطارق اليوميّ وتحت الأضواء... وقد يحصل أن تتجاوز أعطابها وتتخلّى عن أسباب عجزها، بل قد تثوّر بنيتها وتتخلّص من دواعي قصورها وتجعل من نفسها الحزب الذي يتصدّى لصناعة الديمقراطيّة التي لا بدّ منها لبلد يحلم بَنُوهُ منذ عصور بالحرية والعدالة والتقدّم.. ولن ينجح القمع في إخفاء حركة النهضة مهما احتدّ واشتدّ.
7. أمّا هؤلاء الخصوم فسيدخلون في لحظة سبات أخرى تطول أو تقصر حسب عمر الدكاتورية العائدة... ولن يستيقظوا حتّى تعود النهضة إلى الواجهة ليعودوا هم إلى الهجوم عليها وذلك أقصى ما يستطيعون عمله... ولكن لا أظنّ النهضة ستُلدَغ من الجحر مرّة أخرى إن هي رضيت لنفسها بأن تتجاوز سابقات أعطابها.
أمّا البلاد فستخسر، مؤقّتا، حزبا كان يمكن أن يكون لبنة تساعد على ترسيخ البنيان الديمقراطي لو أنّ السياسيين اشتغلوا بمنطق المنافسين لا بمنطق الأعداء.
أمّا الشعب فسيدخل دورة معاناة جديدة وسيلعن هؤلاء الغرائزيين الأنانيين الذين أكلوا عقولهم واحتكموا إلى غرائزهم وفوّتوا على البلاد فرصتها في بناء ديمقراطيتها وتقوية مناعتها لإقامة عدالتها.
8. نظام بن علي اضطرّ حمّة الهمّامي إلى التعاقد مع حركة النهضة في هيأة 18 أكتوبر بينما رفض الوطد ذلك التعاقد، لا لأنّ الوطد أكثر ماركسيّة من حزب العمّال بل لأنّ هيأة 18 أكتوبر كانت محرجة لبن علي والوطد جزء من نظامه ولم يكونوا ليرضوا له بالحرج. الإسلاميون كانوا خصوما لبن علي بينما كان الوطد حلفاء له لذلك لم ينسوا لحمّة الهمّامي تلك الخطيئة.. فهم يعادونه إلى الآن بسبب التقائه بنشطاء من حركة النهضة في هيأة 18 أكتوبر.
9. أمّا القوميّون هؤلاء فليس لهم من فكرة غير مهاجمة الإخوان عليهم يعتاشون وعلى أعراضهم يتحلّقون... مبلغ أمانيهم أن يستدرجوا أحدا منهم إلى الجلوس تحت صورة زعيمهم الراحل، فإذا قبل بالجلوس حيث أجلسوه فقد حقّقوا نصرهم على الأعداء وبلغوا من نشوتهم قمّتها.
10. هؤلاء وأولئك هم السبب في دوران البلد في الفراغ وامتناعه من التقدّم. هما من الطفح الذي أصاب مجتمعنا وجعله مهدّدا بالانقسام على الدوام.
أحيانا أقول إنّهم لعنة أصابت هذه الأوطان لتكون لها كالمعقّم الذي يحول دون خصوبتها. ولكنّ هؤلاء بما يصنعون إنّما يمدّون في عمر حركة النهضة.