في غمرة النشوة بالسلطة والهوس بالحكم رأى المقيم العام بقصر قرطاج أنّه عليه أنّ يعيد النظر في حديث بغلة عمر، وذلك لأنّه قد تبيّن له، حسب آخر اكتشافاته أنّه أكبر من عمر وأكثر تطوّرا وبدا له أنّ أسئلته لم تعد تليق بأن تكون أسئلته،
عمر كان يخشى أن يُسأل أمّا السيّد المقيم العام فلا يُسأل عمّا يفعل ولا عمّا لا يفعل.. ولا حقّ لأحد في أن يسأله في أرض ولا في سماء. البغلة راحلة قديمة لا تناسب الأفكار الجديدة ولا توافق المفاهيم المستحدثة ولا تليق باللحظة التاريخيّة التي عرفت طريقها إلى صانعها الذي جُعلت على مقاسه دون سواه.. لسنا في القرن الهجريّ الأوّل، بل في القرن الحادي والعشرين الميلادي…
دعك من البغلة وسؤال تسوية الطريق لها.. تلك خرافة قديمة من خرافات الذين غبروا ولم يعتبروا..
- الماء مقطوع عن الشعب في أحيائه ولكنّه غزير في القصر... والحمد للسماء التي أنزلته وللأرض التي وزّعته... إذ لا يعقل أن يستعدّ المقيم العام لفعل (استقبل) بدون أن يغسل وجهه ويجريَ الماء في حنجرته ليتمكن من إصدار تعاليمه السمحة لضيوفه المبجَّلين يعلّمهم صعود التاريخ في نفَس واحد دون شهيق ولا زفير.
- الحليب منقطع إلّا عن القصر، فَبِهِ ذريةٌ للتاريخ زُغب الحواصل لا يليق بالدولة أن يسيل بين الناس حليبٌ يجفّ عنهم... سيبقى التاريخ بلا حليبهم جائعا ويعزّ عليه شهيق الصعود.
- الغلال اشتعلت نيرانُها على الشعب حتّى صارت تُرى بالعين المجرّدة ولا تجرؤ عليها الخواطر ولا تمتدّ إليها الأيدي... أمّا القصر فلا تجري الفصول عليه... فيه من كل شيء ما يعادل تخمة... ولا تهمة.
- والخضر التحقت بالسماء ولا أجنحة للناس تلحقها بها، بينما في القصر خيرات حسان بينهنّ تفاّح وعنب وتمر وهندي ورمّان...
في القصر رجال ونساء لا تقوم الدولة إلّا بهم ووجب أن يشبعوا.. أمّا الشعب فما (ما) يبقى منه على قيد الحياة قد يصلح لأن يكون رعايا تليق بمقام راعٍ يزجي وقته الشاسع برعيها والافتنان في لعنها وقد باتت عبئا عليه.. يعانيها ولا يجد منها ما يليق من شكره.
- أمّا عن اللحم فلا معنى للَحْمٍ لا يشبع منه السيد المقيم العام ليسمن ويشتدّ عوده ليجتمع ويؤكّد ويشير ويوجّه ويوبّخ... وينتقل ويعتقل ويغضب ولا يرضى.
تلك البغلة ذهبت وذهب سؤالها معها في الغابرين.