يمضون سريعا في إنهاك الدولة والخروج على القانون باسم حماية الدولة وتطبيق القانون... قاعدة "من تحزّب خان" تعوّضها قاعدة "من تحشّد كان".
الحشد الشعبي تسمية تابعة لا إبداع فيها، تحيل على التشكيل العسكري الذي ينشر الرعب بين أبناء الشعب العراقيّ يقتحم عليهم بيوتهم ويروّع عائلاتهم ويسحل المواطنين في الشوارع... وهو تشكيل طائفيّ مسلَّح مارق على سلطة الدولة يفرض سطوته على العراقيين بقوّة السلاح لا بشيء آخر.
الذين يدّعون أنّهم أنصار قيس سعيّد دخلوا من باب إدانة الأحزاب ليخرجوا على الناس بتسمية أخرى: "حشد".
إذا فهمنا معنى "الحزب" بالاستناد إلى المدوّنات السياسيّة فكيف نفهم معنى "الحشد"؟ هل يكفي تغيير التسمية ليكون التشكيل الجديد، الذي قد يستدعي تشكيلات أخرى مشابهة ومصارعة، بديلا للتشكيلات الحزبيّة التقليديّة؟
الأحزاب أنتجتها مسيرة طويلة للبشرية كانت تحتاج إليها لتعبّر بها عن انتظام سياسيّ مدنيّ قاعدته التنافس على أرضيّة مدنيّة مشتركة أساسها التعاقد والتنافس.. بينما أنتجت الحشدَ حالة دولة فاشلة في العراق تشقّها الصراعات طولا وعرضا.. والذين أنتجوه قصدوا إلى إدامة فشل الدولة العراقيّة بإضعاف مؤسساتها الشرعيّة... ذلك أنّ التشكيلات العسكرية الموازية للدولة لا تنضبط لقوانين الدولة وإن استندت إلى الدساتير وأقرّتها البرلمانات كما نرى في الحالة العراقيّة.
الناطق الرسميّ باسم الحشد الشعبي هذا معجب بالمرحوم القذّافي وبنهجه السياسي ولجانه الثورية ومع ذلك يقيم كيانا نظيرا للكيان العراقي الذي أقيم خارج السياق السياسي ليزيد العراق غرقا في أزماته بعد غزوه وتحطيم دولته وإعدام رئيسه... وقد أراد باعثو الحشد الشعبي في العراق النسج على منوال الحرس الثوري الإيراني ليظلّ العراق محافظة تابعة للجمهورية الإيرانيّة.
زعيم الحشد الشعبي يزعم أنّه بعث تشكيله ليدعم الرئيس قيس سعيّد.. يدعمه ضدّ من؟ هل يحتاج رئيس الدولة القائد الأعلى للقوات المسلحة العسكرية والمدنية إلى تشكيل شبيه بالحشد الشعبي العراقي ليدعمه؟ هل السياق التونسي شبيه بالسياق العراقي أم يُراد لتونس أن تدخل في النفق العراقي حتّى تتحوّل إلى دولة فاشلة ويتحوّل شعبها إلى مشرَّدين؟
الحشد الشعبي العراقي فرضته القوى التي بعثته تحت ذريعة مقاومة دولة داعش.. ولكنّ زوال داعش لم يضع نهاية للحشد.. ولا أحد يستطيع أن يتساءل عمّا يفعله ذاك التشكيل بالشعب العراقيّ بعد خروج داعش.. والحشد التونسي، ما مبرّر تشكيله ولأيّة غاية؟ هل يحتاج القائد الأعلى للقوات المسلحة إلى جهة تدعمه من خارج مؤسسات الدولة؟ هل ننتظر داعش صناعيّة في بلادنا تكون مبرّرا لحشد شعبيّ يحارب الإرهاب المهدّد للوطن؟
الحشد الشعبي العراقي تشكيل مسلَّح فهل ننتظر من النسخة التونسية أن تكون كيانا مسلحا موازيا لمؤسسات الدولة الصلبة؟ ومن هي الجهة التي ستمدّه بالسلاح وتدفع رواتب منتسبيه؟ الحشد الشعبي العراقي تموّله الدولة العراقية لأنه تشكيل "قانوني" مدستَر فمن الذي سيموّل الحشد الشعبي في تونس؟
الحشد الشعبي العراقي وجد له سندا في دستور العراق وصادق على قانونه البرلمان العراقي.. فإلى أيّ جهة تشريعيّة تستند النسخة التونسية من الحشد الشعبي؟ الحشد الشعبي العراقي نشأ بفتوى أصدرتها المرجعيّة الدينية في النجف تسمّى فتوى الجهاد الكفائي، بعد سيطرة تنظيم داعش على بعض المحافظات العراقيّة، فإلى أيّ فتوى يستند الحشد الشعبي في تونس؟ هل توجد في بلادنا مرجعيّة دينيّة خفيّة تصدر فتاواها دون علم الشعب؟
جاء في قانون الحشد الشعبي العراقيّ: ((يكون الحشد الشعبي تشكيلا عسكريًّا مستقلًّا جزءا من القوات المسلحة العراقية ويرتبط بالقائد العام للقوات المسلحة))، فهل سينسج الحشد الشعبي هنا على المنوال ذاته لتتعدّد قيادات القائد الأعلى التونسي؟
الرئيس أنكر، من قبل، حزب الشعب يريد الذي يتحدّث باسمه.. وأنكر وثيقة الانقلاب المسرّبة في شهر ماي2021.. وأنكر كثيرا من الأمور الأخرى ولا يزال ينكر.. وسيُنكر الحشدَ الشعبيَّ الذي شكّله من يدّعون أنّهم أنصاره وداعمو قراراته الأخيرة... فهل يكفي الإنكار اللغويّ حقيقة علاقة الرئيس بهذه الأمور؟
الأمر بات مخيفا والبلاد صارت مهدَّدة بتشكيلات مدعَّمة قد تستدعي تشكيلات مضادّة تهدّد، لا قدّر الله، أمنها. الأمر يحتاج إلى وقفة عاقلة من قبل أهل الحكمة.. وبلادنا لا تخلو من حكماء.