الانقلاب ضربة ارتدادية عنيفة أصابت مسار الانتقال الديمقراطيّ الذي تقدّم أشواطا في تحقيق شرط الحرية أكبرِ مكاسب الشعب التونسيّ من ثورته ثورة الحرية والكرامة.
ومن خصائص الانقلابات أنّها تهدف، عند قيامها، إلى ضرب الحريات وتكميم الأفواه وإلى منع غير الانقلابيين من الرأي ومن التعبير عنه.. ليكون الصوت الوحيد الذي يسمعه الناس هو صوت المنقلب القادم من طيّات القدر المخفيّة، مرفوقا بهمس بعض أعوانه الراسخين في تأويل متشابه قرآنه.
أقام الانقلاب وأعوانه والعالقون به من طامعين على موائده، طاعمين، ومن سياسيين وجامعيين وإعلاميين، أقاموا سرديتهم على تلوين عشرية الانتقال الديمقراطيّ بالسواد، وهو تلوين بعديٌّ قصد الانقلاب من ورائه إلى تبرير قيامه وتسويغ إجراءاته.. وقد استند في سرديته الزائفة تلك إلى ثنائية النور والظلام وقدّم نفسه للشعب كما لو أنّه النهارُ الأبلج الذي وضع نهاية لظلام ليل حالك طويل امتدّ عشرَ سنوات.
كان لا بدّ أن تظهر في البلاد طليعة سياسيّة غير تقليدية من خارج الأحزاب السياسيّة لتوقف زحف هذا الانقلاب الغاشم القادم على ظهر دبّابة أغلقت باب برلمان الشعب ووقفت عنده لا تتحرّك.. وشاء التاريخ أن يكون حراك "مواطنون ضدّ الانقلاب" هو عنوان تلك الطليعة التي خرجت حين دخل جميع النمل مساكنه وصرخت حين خرس الجميع.. وإلى هؤلاء يعود فضل الظهور على المنقلب بالتظاهر في وجهه.
لم يفلح نظام الانقلاب في شيء فلاحَه في القمع والكبت والقهر والحظر والجَور، وذلك هو شأن الانقلابات كما عرفتها الدول التي عانت من ويلاتها.. المنقلب يفشل في خدمة الناس وتبديل معاناتهم فيجعل من الدولة جهاز قمع يُعمله في نشر الخوف بين الناس وزرع اليأس، ومَن سَكنه الخوفُ واستبدّ به اليأس دخل جحره لم يخرج منه إلّا إلى قبره.. وكثيرا ما تسلّل الانقلابيون إلى الناس في بيوتهم ليعجّلوا برحيلهم إلى قبورهم كأنّهم مكلَّفون بتعمير المقابر وقد عجزوا عن إطعام الجائعين وتأمين الناس من خوف فوق الأرض.. الانقلابيون يعجزون عن تحسين حياة الناس فيشحنونهم إلى المقابر، بل يحوّلون البلاد إلى مقبرة لا ريح فيها غير ريح الموت.
ولمّا كان الانقلاب قدّ ادّعى لنفسه نسبًا شعبيًّا كان لا بدّ من كشف زيفه وتعرية كذبه.. وفضح بهتانه.. لا شعبية ولا هم يحزنون.. الشعب هو هذا الذي ينزل إلى الشوارع في كلّ مناسبة يصرخ في وجه المنقلب " ارحل".
ولأنّه ليس له شعب يتظاهر له في الشارع فقد لجأ إلى التظاهر الافتراضي ليصنع له شعبًا افتراضيا لا يمشي في الطريق ولا يراه الناس.. وقد فشل في تظاهره الافتراضي العبثيّ الذي عطّل لأجله جميع مرافق الدولة واستعمل له كلّ وسيلة وأنفق فيه الأموال الطائلة واستدرج الناس إليه استدراجا.
ورغم فشله في اسشارته فهو عالق لا يستطيع الخروج من ورطته التي ورّط فيها الدولة عطّلها والشعب جوّعه، حتّى أنّ بائعة الخبز لمّا شكته معاناة الشباب أجابها بأنّ الشباب منشغل بالاستشارة يصنع بها ملحمته التاريخيّة التي سيأكل منّها المنّ والسلوى.
وبعد؟
سؤال (وبعد) سؤال مشروع، ولكنّه سابق لأوانه... المصريون انتظروا سنوات ليقول كثيرون منهم إنّ ما جرى في بلادهم انقلاب.. أمّا نحن، فقد انبرى كثيرون من بيننا ليقولوا من اللحظة الأولى إنّه انقلاب وافتكّوا الشارع من المنقلب وكشفوا للناس زيفه.
الحلّ أن يستمرّ التظاهر السلميّ وأن يلتحق الجميع بالتظاهر وينادوا برحيل المنقلب وطغمته إنقاذا للدولة من السقوط وللشعب من الجوع والخوف والنقص.
المنقلب ابتلاء ولا يمكن أن يدفع الشعب ابتلاءه إلّا إذا تضافر وتظاهر وقال له بصوت واحد " ارحل" مثلما فعل الشعب السودانيّ مع انقلاب الطغمة العسكريّة هناك في دولة السودان.
بالتظاهر يدفع الشعب عنه بلاء الانقلاب ويحرّر حرياته ويزحزح صخرة الاستبداد عن صدره ويعيد قطار الدولة إلى السكّة بعد هذا الجنوح المُهلِك للحرث والنسل.
التظاهر والصبر عليه كفيلان بأن يوقعا هذا المنقلب الذي بات عبئا على البلاد ثقيلا قد يودي إن استمرّ إلى خراب محقّق.
تظاهروا
تظاهروا
فإلّم تفعلوا أحاطت بكم جدران المعادن وخنقتكم الأسلاك الشائكة وتحوّلت البلاد إلى معتقل يتلهّى حارسه بإحصاء الذين شاركوا في استشارته وينفث دخان سيجارته..
ومن حول قصره المَشيد بالجماجم جوع.