كانت وقفة رائعة.. دسمة.. لأرواح جائعة إلى الحرية.. والمعنى.. جاء المعنى في لباس الحرية... الانقلاب لا فضيلة له غير أنّه يوسّع من دائرة مقاومته.. انقلاب رثّ بشع لا يملك حدَّ عقلٍ أدنى ولا قوّة له غير ما يتوهّم أنّه استولى عليه من أسلحة الدولة لحماية نفسه... من أوّل يومه قال السلاح لي وأنا أفعل به ما أحبّ، في ترجمة بليدة لعقدة سيشخّصها العارفون بدقّة لاحقا…
يوما بعد يوم يكتشف التونسيّون أنّهم يصارعون حالة نفسيّة لا حالة سياسيّة…
وقفة قابس حرّرت المقاومة من المركز الذي تحصّن به المنقلب لتنتشر في الآفاق مثل ربيع يحاصر الحريق.. قابس لملمت جراحها رغم ما تعانيه، منذ عهود، من ويلات الدولة الوطنية التي حوّلت المدينة الجميلة إلى مداخن للموت.. لملمت المدينة جراحها وجمعت شعثها ووقفت.. في وجه المنقلب الهارب بالدولة وقفت.. وقال الواقفون بها للمنقلب: "ارحل".. لست منّا ولسنا منك.. الانقلاب نباتٌ نكِد جئت به لتغرسه في تربة شبعت من الدكتاتورية ولن تقبل الانقلابات.. الانقلاب أسوأ الدكتاتوريات…
بدأت الوقفة متثاقلة ككلّ كونٍ إذا همّ أن يكون.. تنتظر إفاقة الشمس لتعانق الدفء منها ثمّ جاءت الجموع بأعلامها تسوّي حناجرها لتصرخ في وجه المنقلب الجاثم على الصدور الخانق للحياة.. وبدأت الأهازيج وارتفعت الشعارات.. وسرت الحياة.. أسرى بها هذا الجيل الجديد من سياسيين ظهروا على المنقلب من وراء الأحزاب والإيديولوجيات يحضنون "المشترك" ليرجموا به منقلبا يرفض كلّ شريك.. منقلبا قد يعدم الجميع ليبقى وحده فوق جماجمهم يدخّن سيجارة مارلبورو مهرّبة من دول الجوار... لمّا انتهى من تسوية عرشه قال للجميع أنا الخبر ومصدره وناشره ومصداقه وليس لأحد منكم أن يسمع لغيري.. أنا التاريخ.. ومن بعدي الطوفان…
تكلمت الأستاذة المحامية مبروكة الزيدي استقبلت الجموع وفسّرت سياق الوقفة فأقنعت بفاكهة كلامها…
وتكلّم العميد عبد الرزّاق الكيلاني ليشدّ العزائم بشجاعته…
ونزلت الفلسفة من عليائها لتجول بين العقول حين تكلّم الفيلسوف المقاوم الدكتور أبو يعرب المرزوقي ليقول للجموع الشاهدة أنتم المستقبل أمّا المنقلب فهو ماضٍ منتهٍ.. وعدّد حُجَجَهُ فغذّى في الناس الأمل وأنار العقول وألهب الحماسة…
وتكلّمت شيماء عيسى فأثّرت بحدثها في الحضور… عادت بها الذاكرة إليها طفلةً كانت ترافق أمّها في زيارة والدها السجين بقابس.. أربع سنوات كانت شيماء وأمّها تأتيان من تونس العاصمة لزيارة والدها السجين البعيد فتجدان في قابس عائلة تؤويهما وتضع عنهما من أوزار التعب الكثيف…حين كانت شيماء تتكلّم شاهدتُ على الوجوه دموعا تسيح.. الانقلاب أعادهم إلى العهد البغيض… وتكلم لمين البوعزيزي بكلّ كلّه.. كم عميق هذا الفتى.. حين يتكلّم ينهمر الصدق من فيه على إيقاع جسده النحيل ماء زلالا يجرف بسيوله أوساخ الانقلاب..
وتكلم سيد أحمد الغيلوفي برصانة الفيلسوف.. وشارك الجموع ولعه بالمشترَك.. عاد بهم إلى دستور المدينة ليقول إنّ الانقلابات ترتدّ بنا إلى البداوة الفجّة.. بداوة الأعراب، والأعرابُ أجدر ألّا يعلموا…
وتكلم زهير إسماعيل رغم انكسار ساعده فقال: قد يكسرون منّا السواعد، ولكنّهم أعجز عن كسر عزائمنا.. وجبر بكلامه كسورا في النفوس أحدثها هذا الانقلاب المتوحّش..
وتكلّم رضا بالحاج وجيزا وشدّ عزائم المقاومة…
وتكلّم نائب الشعب المنتخب بلقاسم حسن فقال: نحن بين مدرسة ومحكمة.. بين العلم والعدل أمّا الانقلاب وأنصاره فمحاصَرون بين الجهل والظلم.. والجهل والظلم لا يليقان بهذا الشعب الحرّ…
وختامها جوهر.. تكلّم جوهر بن مبارك بحماسته المعهودة وبصوته الجهوريّ ليرفع منسوب حماسة المقاومين ولينشر الأمل بأن مقاومة المنقلب تتّسع دفاعا عن دولة تحترم مواطنيها تطعمهم من جوع وتؤمّنهم من خوف.. أمّا هذا المنقلب فخائف يريد أن يحكم الناس بتخويفهم وتجويعهم…
في ظلّ الانقلاب صار الحصول على أجرك من عملك أمنية….
وقفة قابس كانت فصلا من فصول ملحمة مقاومة الانقلاب.. مقاومة تُعدّ لاستئناف مسار انتقال بلادنا إلى الديمقراطية.. وإذا استوى عود الديمقراطية تحقّقت العدالة السياسية وبتحققها تقوم شقيقتها العدالة الاجتماعية تسندها وتشدّ أزرها…
الديمقراطية وحدها تأتي بالثروة وبحسن توزيعها.. ليزول بهما الفقر.. فقر العقول وفقر الجيوب…
السلام على قابس وأهلها وضيوفها.