لم أكن أعرف ايمن البوغانمي حتّى شاهدته يلقي مداخلة له بين جملة متدخّلين في ندوة أنجزها المركز العربي للحوار ودراسة السياسات... لفت انتباهي الشابّ فجعلت من اسمه عنوانا لهذه التدوينة... تذكّرت، وأنا أسمع لأيمن البوغانمي يطرز الفكرة، ثلاثة من أحبّ الأعلام إلى نفسي في أدبنا العربيّ: بشار بن برد وأبا العلاء المعرّي وطه حسين... أسوق المداخلات بالترتيب وستتبيّنون جدارة هذا الاسم بأن يكون عنوان التدوينة:
1. رضا لينين :
تكلم أوّلا، بكلام مكرور لا يكاد يتجاوزه ولا يعرف غيره: ثمة أزمة.. الأزمة ليست منعزلة عن العالم المحيط.. العالم مأزوم.. الأزمة تصيب الدولة بمفهومها القائم في كل مكان.. العالم قرية واحدة.. الوسائط التقليدية، بما فيها الأحزاب والمنظمات المدنية، لم تعد مجدية.. لا بد من علاج جديد لتدشين عصر جديد بوسائط جديدة لاستعادة الدولة الديمقراطية ذات الطابع الاجتماعي.. هذا كلام دوغمائي يدّعي صاحبه أنّ الحلّ في جيبه.. ولكنّه يخفيه فلا يُطلع عليه من الناس أحدا.
بعد المداخلات الأخرى وأسئلة الحاضرين بقي رضا واختفى لينين وجاء بخطاب مختلف: صار يتحدث عن المشترك والبناء التشاركي.. وصار الحوار يسبق الحقيقة.. الحقيقة تبنى بعد الحوار لأنها بناء مشترك وليست وصفة جاهزة.. وقال إن الحقيقة الخاصة ضعيفة، ومعزولة، وغير واقعية.. وبعد أن كان رضا لينين يتحدّث عن (نحن = الفرقة الناجية) و(هم= الفرق الموعودة بالنار) صار يتكلم بنون الجماعة الجامعة.. وفي ذلك تطوّر ملحوظ نرجو ألا يكون مجرد انحناء أمام السياق المحيط..
رضا لينين يدّعي أنّ جميع الفرقاء صاروا من الماضي ولا مكان لهم في بناء المستقبل وينسى نفسه وينسى أنّه هو ذاته من المنظومة البائدة وقد كان من أصحاب فكرة دخول اليسار إلى حزب بن علي وشاركوه جميع جرائمه السياسية والاقتصادية.. اليوم رضا لينين يريد أن يكون هو رسول الحلّ...
2. المداخلة الثانية :
كانت للأستاذ الحبيب بوعجيلة.. قال إنّ الأزمة قيمة ابستيمولوجيّة.. وهي حدث منتِج وليست حدثا عقيما.. وأكّد أنّنا إزاء مأزق.. وقد وصلنا إلى وضع استقطاب حادّ لم يعد من حلّ فيه إلّا بزوال أحد الطرفين. وقال إننا مررنا من حدث الثورة (17 - 14) ودخلنا سيرورة الانتقال الديمقراطي.
انتخابات 2014: وفرت شروط ملائمة للانتقال الديمقراطيّ.. وكان الفاعلان هما: القديم المدقرط ممثلا في حزب النداء مع الجديد التسوويّ الذي تعبّر عنه النهضة.. قال إن اليسار الوظيفي ممثلا في الجبهة الشعبية كان معارضة وظيفية عملت على تعطيل مسار الانتقال إلى الديمقراطية. ونقد التوافق في أمرين: عدم تحقق العدالة الانتقالية وتعطيل استكمال المؤسسات الديمقراطية.. ولكنه ذهب إلى أن حصاد التوافق قد جنّبنا كسر الانتقال الديمقراطي.
قال بوعجيلة إن انتخابات 2019 جاءت محكومة بمزاج ثوري، غير أنّ المزاج ضُرب والثورة غُدرت. ولخّص المشهد السياسي في: قوّة شعبويّة. وقوّة وظيفيّة جديدة تتمثّل في الكتلة الديمقراطيّة التي تحوّلت إلى جبهة شعبيّة جديدة. وقوّة ثالثة هي القوّة الفاشيّة.. وقد بدت هذه القوى في تحالف لقطع الطريق على الانتقال الديمقراطيّ.. وذهب إلى أنّنا إزاء مشهد سياسي غير طبيعيّ.. مشهد مشوّه صار فيه إسقاط المسار الديمقراطي وجهة نظر ثورية. ويُلخّص المشهد في: استقطاب على قاعدة حزبية وفرز على قاعدة تاريخية.
3. أيمن البوغانمي…
لم أكن سمعت بهذا الاسم من قبل.. ولكنّني لما استمعت إليه شدّني خطابه:
قال أيمن إنه عندما يتحدث عن التوافق لا يقول إنه توافق مغشوش، بل هو توافق منقوص لأنّه شمل بُعدَ إدارة السلطة ولم يشمل الإصلاح.. وربط ذلك بآليات الانتقال الديمقراطي.. وتحدّث البوغانمي عن القرصنة الماركسية للعقل الإنساني عندما تذهب إلى أن الثورة تأتي بالخلاص.. وحين تأتي الكارثة تأتي معها الجنّة..
وذهب إلى القول بأنّ الانتقال الديمقراطي مدخل إلى أزمات عميقة.. وقال إن التوافق آلية للانتقال الديمقراطيّ. وفصل الديمقراطية عن الشعوبية.. ورأى أنّ الشعبويّة تدخل من باب الديمقراطية ثم تمهّد للانقلاب عليها.. ومن رخاوة الديمقراطية تعيش هذه الظواهر اللاديمقراطية.. وربط الشعبوية بالحقد، والحسد، والضغينة، والغضب..
واستغرب كيف تكون مكافحة الفساد مشروعا سياسيا والحال أنها شأن قانونيّ.. وقال إنّ كلمة "رأسمالية" إن هي إلّا صيحة حرب.. بمعنى أنّك متى نعتَّ جهة ما بكونها رأسمالية فقد أعلنت الحرب عليها..
ومن أطرف ما جاء على لسان البوغانمي قوله إنّ شعار "الشعب يريد" هو شعار صبيانيّ.. ففعل يريد فعل متعدٍّ، ولكن صاحبه جعله لازما.. وسنظلّ ونحن نسمعه نسأل ماذا يريد الشعب؟ ولا من مجيب.. لأنّ رافع الشعار ذاته لا يعرف ماذا يريد.. وقد قال من قبلُ إنّه لا برنامج له ولا مشروع.. إن هو إلّا عنوان أجوف: الشعب يريد ويعرف ماذا يريد.. وأضاف البوغانمي نقده اللاذع حين قال إنّ الحياة السياسية حياة مركّبة، ولكنّ القوم إذ يعودون بها إلى البساطة إنّما يعبّرون بذلك عن سوء فهم.. وسوء الفهم سبب لما نحن فيه من انسداد.
4. أحمد الغيلوفي :
تحدث في مداخلته عن ثلاثة مواقف: الموقف الحداثي العلماني والموقف الإسلامي الحركي والموقف القومي التقدّمي.. وذهب إلى أنّ الأزمة إنما هي أزمة الأحزاب التي تستند إلى خلفيات تشترك في البنية الذهنية ذاتها.. هي أحزاب يعقوبية تقول بالاستعلاء وتعدّ نفسها الطلائع التي تحتكر الحلّ.. بينما هي غير صالحة لزماننا.. ورأى أنّ الحلّ يكمن في كتلة تاريخيّة عابرة للأحزاب ومتجاوزة لها تبحث في المشترَك المواطني ولا تذهب مذهب الصراع.