حدّث المنصف ولد عم الطيب قال: عرضت لي حاجة في موضع بإفريقية يُقال له الكاف، على بعد مائة ميل من عاصمتها، فركبت الأشهب وتزوّدتُ بما تيسّر وسرنا يومين، حتى هدّنا المسير وأوشكنا على الهلاك، فإذا خباء في سفح جبل فقصدناه ونادينا أن ادركونا بالماء والطعام، فبرزت لنا جارية كأنها فلقة قمر، أو سبيكة من لجين، فأدخلتني ركنا في الخباء وجاءتني بتمر ولبن فأكلت وارتويت وجاءت للأشهب ببرسيم وقرط وماء فأكل وارتوى حتى اكتفى..
قال المنصف:ثم إنّ الجارية وضعت بيني وبينها ستارا وقالت: يا هذا، إني أراك غريبا، وإنّ لي بعلاً يرعى أغناما لنا، وهذا أوان أوبته، فهلاّ حدثتني عنك؟ فوالله إن هي إلا أن سمعتُ صوتها حتى عرفت أنها نعيمة صاحبة الطيب ورفيقة طفولته وابنة عمي. فعرّفتها نفسي، فسألتني عن الطيب، وماذا فعل به الدهر بعدها؟ فأخبرتها بخبره فبكت ساعة حتى خِفت أن يُغمى عليها، فلما هدأت سألتها: أما زال في قبلك من الطيّب ولد عمك شيء؟ فزفرت زفرة خلت معها أن روحها فارقت جسدها وقالت: يا هذا والله إنني أذكره ما صدح طائر أوهبّ نسيم أو تعاقب الليل والنهار، ووالله إنه ليخيّل لي حينا من الدهر أنه لا يبرحني، وانه يلاعبني ويستلطفني كما كان يفعل، وأنه يمسكني من شعري يمشّطه أو من ذراعي يجذبني إليه يطلب الحبّ، ووالله ما سلكتُ طريقا في غدوّي ورواحي إلا تحدثتُ إلى طيفه وشكوت إليه بهمّي كما كنت أفعل ونحن في مقتبل العمر..
قال المنصف: ثمّ إنها أمسكت ساعة عن الكلام حتى خفت عليها التلف، فقلت لها أواسيها: قد مضى كل منكما في طريق، وقد اختار الله لكما أن تعيشا غريبين، فعسى أن يجمع بينكما في جنة الخلد حيث لا نصب ولا فراق، فرفعت الستار فإذا عيناها مثل جمرتين من البكاء، وقالت:والله يا ابن العمّ ما خلت يوما أنّ الدّهر سيفرّق بيننا، وقد عشنا أياما وليالي نعبّ من الدنيا فلا نشبع، أرعاه مثل طفل وأقوم على حاجته وأطبّبه، وأهتمّ بشأنه مثل أمّ رؤوم، يناديني فأستجيب، ويتنصحني فأنصحه، وأذبّ عنه غوائل الدهر، وأُسكنُه مقلة العين وسويداء القلب، وقد شاء الله ألا يكون لي وألا أكون له، فالحمد الله على كلّ حال..
قالت ذلك وأنزلت الستار، فلم أعرف والله كيف بت ليلتي، فما بانت تباشير الفجر حتى ركبت الأشهب ورحلت بلا وداع، وإنّ بعل نعيمة ليقسم عليّ أن أقيم عنده يوما آخر أو يومين..