مذكرات الجوادي : يوم الأحد الأخير من العطلة.

Photo

لكم كرهته،لكم توجست منه،لكم تمنيت الا يأتي! ولكنه يأتي بعد كل عطلة: أغبر، ثقيلا ، حزينا،شمسه باهته،وساعاته كئيبة متثائبة!

تأمرني هنية أن أستعد للذهاب إلى المبيت،وهذا معناه أن تضعني في قصعة النحاس لتحكّ جلدي بقسوة وتفرك شعري بالصابون الأخضر الذي يتسرب إلى عينيّ فيجعلني أصرخ من ألم الحرقة فيهما ،بعد ذلك عليّ أن أبحث عن كراساتي وكتبي المتناثرة هنا وهناك،لأضعها مع أغراضي المختلفة في حقيبتي الحمراء،وتطلب هنية من نعيمة أن تملأ لي حكة الشامية الفارغة بالمقروض والرفيسة لأستعين بها على تحمل الجوع في المبيت ،وبما أن موعد الحافلة التي ستقلني إلى مدينة الكاف هو الساعة الخامسة مساء،فقد كان علي أن أترك عالمي الخاص بكل تفاصيله المثيرة الرائعة،منذ الساعة الواحدة فألزم الغرفة حتى لا يتسخ شعري وثيابي،وتساعدني نعيمة على التأكد من الواجبات التي أهملتها طيلة العطلة،لأكتشف أنني لم أشرح نص العربية،ولم أحفظ فرائض الوضوء،ولم أرسم لوحة تجسد إمراة ريفية تحضر العولة كما طلب منّا أستاذ الرسم,وسرعان ما تحضر نعيمة ورقة رسم بيضاء,وقلم الرصاص وأقلام الزينة,لتحاول رسم هنيّة بملحفتها القهوي,ومريول فضيلة وهي تكسكس جالسة على الأرض,وبجانبها الكانون فوقه برّاد الشّاي يوشوش ,وبمجرد أن تطّلع هنية على ما رسمته نعيمة ,تثور ثائرتها وتلفت نظرها أنها رسمت شعرها مكشوفا كأنّها قاورية!فتتدراك نعيمة الأمر وتعيد رسم راس هنية مُغطّى بمحرمتها العربي الزنزفوري!

ويزداد قلبي انقباضا مع اقتراب موعد الحافلة,وأحاول أن أشغل نفسي فأقترح على نعيمة أن تصحبني إلى النهر القريب لنملأ جرّتنا ماء,ولتساعدني على استعراض ما حفظته من فرائض الوضوء,وسرعان ما تلاحظ أنني "عاقل" على غير العادة,حتى أنني لم أضمّها ونحن في الطريق إلى النهر,ولم أتلمس بنوارها القزوردي,فتتساءل ببراءة:

-وشبيك الطيب ولد عمّي؟مريض؟

وأجيبها بدون اكتراث وأنا أعي قصدها:

-لاباس ,ناي ولّيت عاقل,ماك ما تحبّش نمسّك ,وديما تشكي بيّا لهنيّة ,قررت باش نولي عاقل,وهاني باش نمشي للمبيت نبقى شهر كامل ,هاك باش ترتاح منّي.

وما أسرع ما تقع نعيمة الساذجة "النيّة" في الفخّ فتضمّني إليها بحرارة,وسرعان ما أنسى ما يسبّبه لي يوم الأحد من اكتئاب ,فأضمها بدوري,لتشتكيني كما في كل مرة لهنيّة,التي تكتفي بقرصي من أذني ,لتنبهني للمرة الألف إلى ضرورة الإهتمام بدروسي وترك التشويش ومشاغبة المدرسين والقيميين !

مع الساعة الرابعة مساء يركبني المنصف ولد عمّي وراءه على حماره الأشهب,ويقطع بي الحقول في اتجاه الفيلاج حيث محطة الحافلة ,بعد أن أكون قد ودعت هنيّة ونعيمة وخالتيّ ,وكل متساكني الدوّار,وبعد أن تكون نعيمة قد دسّت في جيبي حرزا "سيحفظك من العين ويبعد عنك بنات المدينة"
لم أفهم إلي اليوم,لماذا كانت هنية ونعيمة تودّعاني بالنشيج والدموع والأحضان!ولم يحصل أبدا أن رحلت من عندهما مثل خلق الله بدون دموع ولا نشيج ولا أحضان ولا حزن!كانت لحظة الوداع جديرة بفراق أبدي لا عود بعده! مما يجعلها لحظة صعبة قاسية مرهقة لقلبي وأعصابي,وكانتا تقفان خارج المنزل تشيران إلي بيديهما مودعتين,حتى أختفي عن نظرهما !

وحده المنصف ولد عمّي,كان باردا في أحاسيسه وتعبيرات وجهه,وبمجرد أن يطمئنّ أنني اتخذت لي مكانا في الحافلة ,يمد لي يده مودعا وهو يردّد:

-ملاّ راحة,كأنك ماشي للعكري,والكاف تبعد علينا أربعين كلم !

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات