في ذلك الصيف البعيد من أواخر السبعينات عاد بلڤاسم ولد عمي من فرنسا محمّلا بأفكار جديدة مبهرة لا عهد لي بها، ولأوّل مرة في حياتي سمعته يتحدث عن ماركس ولينين والاشتراكية والبرجوازية والثورة والبروليتاريا، فأربك حياتي، وهزّ قناعاتي من جذورها!
كانت هنيّة تحلب البقرة عندما دخلت عليها لا ألوي على شيء:
-يمّة، يمّة، من اليوم يلزم تعطي كل دار في الدوار شويّة حليب! خاطبتها جازما..
- وعلاه وليدي، ماو لباس، أجابتني وهي تحملق فيّ مندهشة، قبل أن تضيف:
- تكونش طحتْ على رأسك؟
- لا يمّة أجبتها بجرأة ثوريّ جدير بهذا الإسم، أما حرام أحنا نشربو الحليب وغيرنا ما يشربش! والبقرة يلزم تكون ملك الدوار لكل، وإلاّ أنتِ نعتبرك برجوازية متعفنة!
تركت هنية البقرة وسطل الحليب وراحت تطاردني بشلاكتها بوصبع وهي تلعن وتشتم وتحوقل وتستعيذ وشعرت لأول مرة في حياتي أنّني ثوريّ حقيقيّ ومثقف عضوي كما يقول ابن عمي، وأنني أفهم كل شيء من حولي الفهم الصحيح، وأن الفلاّحين البسطاء في قريتي مجرد جهلة يضطهدهم القيصر المتمثل في العمدة والامبريالية المتمثلة في رئيس الشعبة! ورحت أحرّض أترابي على التمرّد، والمنصف ولد عمي على تسخير حماره الأشهب لخدمة جميع الفلاحين..
ولكن المنصف ولد عمي رفض ذلك بشدة فاعتبرته بدوره بورجوازيا متعفنا! وتجنّبت مجالسته أياما عديدة.. وحدها نعيمة بنت عمي آمنت بأفكاري بدون نقاش، وأعلمتني أنني طالما وفّرت لها "شاميّة غزالة" والحلقوم فلا مانع عندها أن تكون في صفّ البروليتاريا!
ولن أنسى يوم طلع علينا بلڤاسم ولد عمّي بجملته التي كادت تزعزع يقيني بشكل نهائي، فعندما كنت أصطحب هنية لزيارة الوليّ الصالح سيدي حميدة بن خضر، حاول اثناءنا عن ذلك بحجّة أنّ الدين "أفيون الشعوب"، وهو ما يعني أنه لا وجود لأي قوى غير مرئية بإمكانها التأثير علينا! ولمّا حاولت تبسيط الفكرة لهنيّة، كادت "تندبهم" من القهر، وتساءلت وهي تنتفض غضبا:
-كل شيء إلا رجال حمادة، يجعلنا في بركتهم، ويجعلهم ورانا وقدامنا، لولاهم رانا ندهدسو ما نشوفو لا نسمعو، فقد كانت رحمها الله مثل كل الفلاّحين في قريتنا النائية تؤمن إيمانا مطلقا بقدرات أولياء الله الصالحين الخارقة!
ولكنني سرعان ما عدتُ مجرّد بورجوازي متعفن مع تقدمّي في العمر، كما أن بلڤاسم ولد عمي نفسه حجّ أربع مرات وعاش بعيدا كل البعد عن البروليتاريا وانحاز على الدوام للسلطة التي كان يدّعي أنّها مجرد أداة للقمع..