كنت أدرس الثانية ثانويا [الثامنة اليوم] في أحد المعاهد بولاية القصرين وكان البرد كافرا متوحشا، وكان القسم مكتظا بتسعة وثلاثين تلميذا وكنت أعزب ،ثيابي مبتلة من المطر التي تسربت إلى كل خليّة في جسدي وأنا في طريقي إلى المعهد ، جائعا لم أتناول طعاما ساخنا منذ يومين مكتفيا بالخبز والسردينة،وحمّى ملعونة تلتهم جسدي التهاما ،حين سمعت نقرات على الباب…
فإذا المدير يصطحب رجلا أنيقا بربطة عنق ، تفوح منه عطور غالية ويحمل حقيبة جلدية أنيقة ،ليعلمني بأنه : متفقد العربية !خفق قلبي بعنف وغمرني عرق بارد،ولا غرو، فهي المرة الاولى التي يزورني فيها المتفقد ،تمالكت نفسي،ومددت لهما يدي مسلّما ،جلس المتفقّد آخر القاعة،وطلب مني كراس النصوص وتوزيع المادة،ورحت أشرح نصّي .
وقد ظهر عليّ الارهاق الشديد ،وأنا أغالب الرشح، والصداع والحمّى ،وبمجرّد ان انتهيت من درسي أعاد إليّ كرّاس النصوص ،وطلب مني أن امتنع عن تدريس الحصة الموالية وان ألتحق به في مكتب المدير،وهناك وجدته واقفا أمام المكتب غاضبا مزمجرا ،وما ان رآني مقبلا عليه حتى امسك بكتفي وطلب مني أن أركب معه فورا في سيارته ،وفي الطريق سألني بحنوّ:
-انت مريض ،لماذا تدرّس،مالذي جعلك تمتنع عن زيارة الطبيب؟
ورحت أشرح له استحالة الوصول إلى مدينة تالة، أقرب مدينة يوجد بها طبيب خاص بسبب تعطل سيارة النقل الريفي الوحيدة التي تربطنا بها .
صمت طويلا،وربت على كتفي،وهمس لي:
-سأصطحبك بنفسي لعيادة الطبيب، قبل أن يضيف ،وبالمناسبة أشكرك على درسك الناجح جدا وأطلب منك ان تحضر مع زملائلك مدرسي اللغة العربية لترشدهم.
وصلنا مدينة تالة،وتوقفت السيارة امام عيادة الطبيب الخاص الذي فحصني وأوصى لي بمجموعة كبيرة من الادوية ،اقتنيتها صحبة المتفقد من صيدلية المدينة وقفلنا راجعين ،حيث اوصلني لسكن المدرسين التابع لوزارة التربية ثم ودعني وانصرف.
رحمك الله سي حمادي الزنكري… لقد كنت إنسانا قبل ان تكون مجرد متفقد.