يوم الخمبس هو اليوم المخصص للتكوين!
ركب المدرس دراجته النارية واتجه إلى مركز التكوين المستمرّ بأريانة بعد أن لبس حذاءه الجديد و بعد أن ذكرته المدام بضرورة اقتناء " ربطة معدنوس " و" طزينة ملسوقة"من أجل الغداء،وهو في طريق العودة ،وبعد ان سلبته ابنته الصغرى مبلغ سبعين دينارا ثمن حصص أوتيد الرياضيات التي استكملت الحصة الرابعة منها منذ يومين،وصل إلى المركز متأخرا عشر دقائق فاتجه رأسا لقاعة الاجتماع فاستقبله زملاؤه القدامي بالاحضان والتعليقات المازحة،مما جعل المتفقدة توقف ما بدأت فيه" حتى يكمّل الجوادي يسلم في عقلو" ،جلس في مكانه،وراحت المتفقدة تفصل القول في التغييرات الطارئة هذه السنة ،فإذا هي تغييرات كثيرة شملت جوانب لا حصر لها منها الامتحانات وتقييم المدرسين،وطريقة شرح النصوص،وما أسرع ماعادت به الذاكرة إلى السنة الماضية وما قبلها،همس للزميل الذي يجلس بجانبه:
-آخي موش كل عام يقولولنا كل شيء تغير؟
لم يهتمّ زميله بما همس به إليه ،وطلبت منه المتفقدة بلطف ان " يركّز معاها" ،فاستسلم لقدره،مقنعا نفسه بأنه مجرد عون تنفيذ،يطبق ما يخطط له الجالسون في المكاتب المكيفة و من يسمون أنفسهم خبراء التربية ،وأن عليه أن "ينفذ ويسكر فمو" .
وعندما اقتربت منه المتفقدة همس لها: مدام ،عندي ثمنية وثلاثين تلميذ،زعمة تمشي معاهم البيداغوجيا الحديثة والطرق النشيطة، اللي حضرتك تحكي عليهم.
لم تكترث المتفقدة بملاحظته،وفي الأثناء تذكر انه نسي أن يسأل مدامته إن كان يجب أن يقتني التن والعظم مع المعدنوس والملسوقة؟
يوميات مدرس لغة عربية في الكولاج (5)
دخل المدرّس الطيب الفصل نشِطا وعلامات البشر تضيء وجهه الخمسيني،وبعد أن استكمل جولته الروتينية بين المقاعد طلب من تلاميذه الجلوس وفتح كتاب القراءة ،إنه سيشرح مع تلاميذه نص " أحبّك لكني أريد أن ألعب " المأخوذ من رواية السراب لنجيب محفوظ ،وهو يجد متعة حقيقية ، وخفة ونشاطا كلما شرح هذا النص الذي تشده إليه ذكريات حميمية دافئة،وهو يتذكّر أنه اقتنى الرواية من مكتبة العرفان المتربعة في قلب مدينة الكاف العتيقة ،دخل ذات صباح المكتبة ولم يكن يملك إلا خمسمائة ملّيم هي معلوم سيارة اللواج التي ستعيده إلى مدينة تاجروين حيث يدرس بالسنة الثانية آداب بمعهدها القائم أسفل الجبل، شعر بالإحباط الشديد عندما علم من صاحب المكتبة الطيب أن ثمن الرواية هو ثمان مائة مليما بالتمام والكمال، فراح يتصفح ورقاتها ويعبّ منها عبّا أنساه نفسه حتى وصل إلى الصفحة العاشرة ،وإذا بصاحب المكتبة يهزّ كتفيه بلطف ويسأله: - عجبتك الرواية؟
فأجابه صاحبنا دون أن يرفع رأسه عن الرواية:
-برشة برشة
-اشريها مالا، أضاف الرجل الطيب، ولما لم يجبه الفتى ، اقترح عليه أن يقسّط سعرها على شهور عديدة ، فاحتضنه الفتى بكل حرارة وأخرج ورقة الخمسمائة مليم من جيبه ووضعها أمامه، ولكن الرجل الطيب أعادها إليه هامسا له:
-هاني نعرفك، كل ما تلقى مبلغ جيبو، فخرج صاحبنا بالرواية والدنيا لا تكاد تسعه من الفرحة،ولم ينس الفتى لصاحب المكتبة هذا الجميل أبدا ،وظل يذكره بخير على الدوام !
بعد أن استكمل مع تلاميذه تقديم النص ،راح يناقش معهم سلوك الأم تجاه ابنها ،هذه الأم التي كانت تحرمه من حقه في اللعب خوفا عليه من مخاطر الشارع،بينما كان هو يتحرق رغبة في التحرر من سلطانها ومشاركة أترابه ألعابهم،وأصيب بالدهشة عندما أجمع تلاميذه أن موقف الأم غير مبرر وخاطئ،وتمنى أن يصرخ فيهم :
- ليت هنية على قيد الحياة ،وتحجزني في قمقم لا أخرج منه، انكم لا تعرفون مرارة الفقد،انه اشد مرارة من فقدان الحرية…