ارتبك التلميذ الطيب الجوادي وغمره عرق بارد،وأسقط بيديه، وارتجّ عليه ولم يجد ما يقول!
كان ذلك سنة السيزيام وقبيل أن تحتفل البلاد بعيد الاستقلال بأيام قليلة!
فقد طلب منه سي عبد الكريم معلم العربية ، باعتباره الاول في مادة الإنشاء، أن يحرر نصا من عشرين سطرا يمدح فيها بلاده تونس وطنه المفدى ويشيد بإنجازات الزعيم الفذ المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة، لتشارك به مدرستنا ضمن احتفالات الولاية بعيد الاستقلال!
الحقيقة أنني حتى تلك اللحظة لم أكن أعي بوضوح دلالة الوطن، ودلالة أن أكون تونسيا ، ودلالة أن يكون للبلاد رئيس عدا أن يكون زعيما وفذا!!بل إنني وكل متساكني قريتنا البائسة لم نكن نفهم سبب تهجم البعض على الاستعمار ومدحهم للاستقلال وفضائله!
فباستثناء مدرستنا المتداعية للسقوط ومستوصفنا البدائي ،لم يكن في قريتنا ما يثبت أننا تونسيون ومستقلون ولنا وطن ودولة،!بل لم يكن هناك ما يثبت أننا مواطنون أصلا!
لم تشق الدولة طرقا فكنا نتكبد عناء التنقل في المسارب الفلاحية الضيقة الموحلة
ولم تدخل لنا الكهرباء فكنا نعيش في ظلام دامس .
وكنا نتدبر الماء بصعوبة بالغة ، وبالكاد نجد منه ما يفي بحاجاتنا الضرورية
ولم تكن هناك أي مشاريع لتشغيل طالبي الشغل فكنا نعيش على الكفاف في فقر مدقع ،
لذلك وجدت نفسي محرجا وأنا أواجه الورقة البيضاء التي وضعها سي عبدالكريم أمامي على الطاولة، وبعد أن أعتصرت دماغي أكثر من نصف ساعة دون جدوى ، طلبت من " سيدي" أن يمهلني ليوم الغد أملا في الاستنجاد بمن هم أكبر مني سنا لمساعدتي على فك لغز الوطن الذي لم نكن ننتمي له!
ولكنني كنت كالمستجير من الرمضاء بالنار :فلم أجد من يشفي غليلي، وكان الجميع يعرضون عني بمجرد أن أطرح أمامهم السؤال اللغز : ماهو الوطن؟
وحده المنصف ولد عمي تجشم عناء التوضيح: " تحب تلوج على تونس؟ تونس والتوانسة تلقاهم في العاصمة وفي الساحل، غادي تلقى السبيطار والضوء والماء والبناويت المزيانة، والمزفّت والعيشة، نحنا هنا مطيشين في الجبال كي الذيوبة ما يسمع بينا حد" !
وقد سلمت الورقة بيضاء لسيدي عبدالكريم الذي انهال علي ضربا ،فلم يكن ممكنا أن أنقل كلام المنصف ولد عمي خوفا من غضب سيدي وغضب كل من يهمه شأن الوطن.