كان لأسرة ريفيّة كلبٌ معروف بالشراسة واليقظة ،وكان فطنا ينام بعين واحدة لا يتردد في مهاجمة كلّ من تسوّل له نفسه الاقتراب من منزل سيده أو قطيعه من الأغنام فغدا المزارع السّعيد مُهاب الجانب مطمئنّ البال ينام قرير العين لا يخشى اللصوص ولا الذّئاب .
واعترافا له بالجميل كانت الأسرة تعامل الكلب كما تعامل أطفالها: تدلّله،وتطعمه بأيديها وتطبّبه وتخصص له بيتا خشبيا واسعا يقيه برد الشّتاء وحرّ الصيف ،وذات يوم قرّر الفلاح النزوح إلى المدينة بعد أن كبر ابنه الوحيد ودخل الجامعة، فباع أغنامه وحماره وبقرته وهجر منزله واستأجر شاحنة ضخمة نقلت أغراضه ولم ينس كلبه الوفيّ ،فخصص له مكانا مريحا فوق الشاحنة.
واستقرّ المقام بالفلاح في أحد الأحياء المكتظة بالسكّان ،ومنذ اليوم الأول تفطّن أن البيت ضيق ولا يمكن تخصيص مكان للكلب فتدبّر له ركنا ضيقا فوق السطح، ولكن الجيران سرعان ما انزعجوا من نباحه فراحوا يطرقون باب الوافد الجديد غاضبين ثائرين منذرين إيّاه بأنّهم سيشتكونه إذا لم يرغم كلبه على الصمت، فاضطر الفلاح المسكين إلى إيوائه في المطبخ فانقطع الكلب عن النباح وأقعى على ذيله ورفض الطعام المُقدّم له كأنه فهم ما يحصل حوله.
في الصباح لم يعثر الفلاح وزوجته وابنه الوحيد على الكلب، فتشوا عنه في كل الأنهج والشوارع المحيطة دون جدوى،بكوْه بكاء مرٌا عدّة أيام، وفجأة خطرت في ذهن الفلاح فكرة!
ركب سيارة أجرة إلى قريته وقصد بيته القديم رأسا، وهناك وجد الكلب يعاني سكرات الموت بعد ان أنهكه الطريق ومزّقت لحمه الذّئاب وأنهكه الجوع ،فضمّد جراحه وأطعمه وسقاه ولفه بثيابه ليمنحه بعض الدفء، ولكنه أسلم الروح وهو في حضنه فبكاه ودفنه وجعل على قبره شاهدا ولم ينقطع عن زيارته سنوات طويلة ،وقد توهمّ البعض أن وليّا صالحا دفن في ذلك المكان فبنوْا عليه زاوية صغيرة صارت مع الأيام مزارا وسميت الزاوية: زاوية سيدي النبّاح ، ويقال أن من كراماته انه يعيد المُفارق لأهله زوجا كان او غيره.