رقم ،،،،الطيب الجوادي،مقبول

Photo

وقفز إليه زملاؤه يحتضنونه ويقبلونه …

أمّا هو فقد أسرع إلى ركن قصيّ من المعهد وراح يبكي بحرارة،يبكي كما لم يبك قبل ذلك أبدا: هاهو اليوم يكسب الرهان الصعب، الرهان المستحيل ،ويتحصل على الشهادة التي تساقط كثيرون من زملائه وأقاربه ومعارفه في الطريق إليها ،بينما آمن هو حتى اللحظة الأخيرة أنه بإمكانه أن يمضي بعيدا جدا في الطريق الصعبة المكسوّة بالأشواك والمحفوفة بالشكوك والإحباط.

نعم لهنيّة فضل كبير عليه،فهي التي لم تتوقف يوما عن تشجيعه وتذكيره بأنه لو نجح فسيكون ذلك تعويضا لها عن كل خساراتها ومعاناتها وتضحياتها ،هي التي لم تعرف في ريفها الكافي البعيد غير قسوة الزوج وشظف العيش ونكران الجميل ،ولكن بإمكانه الآن وقد تحصل على الشهادة الكبيرة ان يشعر بالفخر بنفسه أيضا،فقد استطاع أن ينجح وان يجتاز كل العقبات التي اعترضت سبيله،وما أكثرها،بدون ان يعتمد على الدروس الخصوصية ودون ان تكون له مواهب استثنائية ودون ان يساعده أحد ماديّا او معنويا،فقد كان يكتفي بما توفّره دجاجات هنيّة التي تبيعها في السوق الأسبوعية ليحصل على الحدّ الأدنى الضروري من الحاجيات، راضيا قانعا،فقد كان يدرك أن الوصول للهدف يتطلب منه أن يتغاضى عن التفاصيل الصغيرة ومنها بالخصوص ،احباط المحبطين الذين كانوا يفعلون المستحيل لتثبيط همّته ودفعه للإستسلام في منتصف المعركة دون ان يدرك هدفه !

أحس بيد حانية تطوقه ،وسمع صوت صديقه فتحي العباسي يدعوه إلى الإنضمام إلى بقية التلاميذ،مسح دموعه ،وتقدم نحو زملائه يقبلهم ويهنئهم ،فاقترحوا عليه ان يرافقهم إلى مدنهم وقراهم ليحتفل معهم بالنجاح،على ان يعود إلى قريته في الصباح الباكر،تردد قليلا ،تذكر هنيّة التي تنتظر في الدوّار،وقرر ان يتركها تنتظر ،وقبل العرض.

رافق زملاءه إلى الجريصة والقلعة الخصباء وبعض الارياف هناك وهناك بعد ان تكفل والد أحد زملائه بنقلهم في سيارة النقل الريفي التي يمتلكها.

وكانت ليلة لا تنسى، شارك فيها زملاءه فرحتهم بالنجاح حتى الصباح الباكر.

في الصباح الباكر امتطى الحافلة إلى مدينة الكاف، وحافلة أخرى إلى قريته هاهو يعود إلى الدوّار وكأنه فاتح عظيم أو قائد جبّار كسب المعركة وكسب الحرب هاهو يعود وقد تحصّل على الشّهادة الكبيرة، شهادة الباكالوريا،وما أدراك ما الباكالوريا ، وقريبا سيدخل الجامعة التي لم يدخلها من أبناء قريته إلا قلّة قليلة لا يكاد عددهم يتجاوز أصابع اليد الواحدة
الطيب الجوادي،مقبول.

الطيب الجوادي تحصل على شهادة الباكالوريا !!!

يا إلاهي !ألا يكون مجرد حلم ؟لا لا، هذه حقيقة وليست حلما،انا لا أحلم الآن، انا مستيقظ،قرصت نفسي عدة مرات،وفي كلّ مرّة أتيقّن أنني في حالة يقظة،

طلبت من سائق الحافلة ان ينزلني قبيل الوصول إلى الفيلاج، فلبّى وابتسم لي وهنّأني عندما علم أنّني " نجحت في الباك" !!!

بمجرّد نزولي وسط الحقول المترامية ،لمحتها من بعيد، لمحتُ هنيّة واقفة تنتظر وراء بيتنا الحجريّ ،أشارت لي بيدها مستفهمة ،فأشرت لها بأن تزغرد بحركة من يدي ،فراحت تزغرد وتتردد زغاريدها لتوقظ الدوار الخامل في ذلك الصباح الصيفي القائظ.

بمجرد وصولي " لقيت الدّار تملى وتفرّغ"،وما إن لمحتني هنية حتى اسرعت إليّ واحتضنتني وقد غلبتها دموعها وهمست لي:"اليوم رفعتلي راسي،وعطيتني عمر جديد" وكم كان وقع الجملتين عظيما ومزلزلا،لقد كان ثناؤها اعترافا صريحا وواضحا أنني سددت ديونها الكثيرة عليّ،وكنت في مستوى ثقتها وتضحياتها، وهو أعظم تكريم نلته في حياتي ،تكريم لم ترتق لأهميته وقدسيته أي شهائد او مناصب تحصلت عليها بعد ذلك.

راح الجميع يرقصون ويغنون،وتحزّمت هنيّة بمحرمة عربي وراحت ترقص وترقص بطريقة هستيرية ، كما لم تفعل أبدا في حياتها ،وهي تردد أغنيتها الأثيرة" هذا النهار اللي نبغيه،،"ولاوّل مرّة في حياتها خرقت أعراف وتقاليد القرية وطلبت من الوالد أن يشاركها الرقصة ،فتردد قليلا ثم حزم نفسه بلحفته وألقى بشاشيته بعيدا ومعها هيبته و"تكشيرته" التي تلازمه دائما ، وطوّق هنية بذراعه وراحا يحجلان على إيقاع دربكة نعيمة بنت عمي على قصعة النحاس،وقد أثارت الرقصة إعجاب وطرب الحاضرين وحماسهم فانخرط الجميع في الرقص نساء ورجالا وأطفالا ،وسقطت لأوّل مرة الحواجز والضوابط المتعارف عليها، فرقصت خالتي عائشة مع زوجها، ورقصتُ مع نعيمة أمام والديها دون ان يستنكرا ذلك، ومع وصول " طبّال بن عيدودي"،ومعهم " الصغير والكبير واللي يدبي على الحصير" من سكّان القرية تحول المشهد إلى مهرجان متكامل، الكل يرقص، ويهنّئ ،،ويلتهم الڤوفرات ويشرب السينالكو الذي برّدته هنيّة في البئر، وامتلأ الحوْش بالخرفان التي جاء بها المهنّئون ،فدعت هنية الجميع إلى مشاركتها طعام الغداء والعشاء وهي لا تنقطع عن الغناء وابتسامة عريضة تضئ وجهها الرائع،وفي كل مرّة تحتضنني وتقبلني من جبهتي وتقدمني لضيوفها وهي تغمغم "الطيب ولدي، اللي نجح في الباك،ولدي البدري ، اللي جبتو بعد شوڤ".

وفي خضمّ ذلك كلّه، لم تنس هنيّة أن عليها ديْنا مُستحقّا للوليّ الصّالح سيدي حميدة،فأمرتني ان ارافقها في كات كات أحد الضّيوف إلى مقامه المنتصب بجلال تحت الجبل ،وهناك داخل المقام أشعلت الشموع ومرّغت وجهها في قماش رايته، وخاطبته والدموع تخنقها:" جيت نشكرك يا جدّي لنڤر، يجعلني ديما في بركتك، وديما راضي عليّا" .

وكان يوما مشهودا ،

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات