ولدت في أحد أرياف ولاية الكاف
عالمي كان :النهروالسهل،والجبل والغابة
لم يكن عدد السكان يتجاوز الألف ساكن ومنذ بدأت أعي ،اكتشفت أن عدد أفراد أسرتي لا يقل عن الألف ،لأننا كنا جميعا نعرف بعضنا وتربط بيننا أواصر الدم والمصير والحلم .
فقد نشأنا مترابطين متكاتفين مثل أسرة واحدة ،حتى أنني لا أتذكر أن بابا ما من أبواب بيوت قريتنا الصغيرة قد أغلق في وجه أحد إلا أن أظهر ما يكون الترابط بيننا ، في رمضان المعظم.
ولم يكن لدينا مسجد جامع بل لم يكن لدينا مسجد أصلا..كان المصلون يتخذون من غرفة كبيرة تبرع بها جارنا محمد بن حسن مسجدا، والعادة في ريفنا أن الناس لا يصلون إلا في رمضان وبمجرد انقضاء الشهر،يتركون الصلاة على أمل الالتزام بها في رمضان الموالي، وأذكر أنني أجبت سيدي عبدالكريم معلم العربية لما سألنا عن مواقيت الصلاة: خمس مرات في اليوم ونؤديها في شهر رمضان المعظم!، فنبهني أن الصلاة واجبة طيلة السنة، وأن ما نفعله في ريفنا مخالف للدين، ولكن المنصف ولد عمي طمأنني لما استفتيته في الامر بأن الصلاة لا تجب إلا في رمضان ، وأن سي عبد الكريم " ما يفهمش برشة في أمور الدين، ولا يعقل أن كل متساكني دوارنا كفار !
وكان الكبار يلزموننا بالصلاة في هذا الشهر ويحشروننا أولادا وبنات في ركن قصي من الغرفة الضيقة ويراقبون مدى التزامنا بما لقنوه لنا من آداب الصلاة التي نادرا ما كنا نلتزم بها :فلم نكن نمسك ضحكاتنا ولا أيدينا عن العبث والقرص ، مما كان يثير حفيظة خالي محمد ويدفعه لتأديبنا بلسانه القاسي أو بكفه الغليظة
من أغرب ما أتذكره عن تلك الفترةأنه لم يكن لنا مؤذن ولا آذان يرفعكان خالي محمد بن حسن هو المؤذن وهو الإمام وهو المفتي وهو مؤدب الأطفال:مع غروب الشمس كان ينظر إلى الأفق ،يدقق في ساعة جيبه ،ثم يعلمنا نحن الأطفال المتحلقين حوله بأن موعد الإفطار قد حل!!فنجري سراعا إلى أهالينا نزف لهم الخبر ونحن نصيح :مغرب مغرب ولم يكن خالي،يهتم بالدقة في تحديد موعد الإفطاروأذكر مرة أنه أخبرنا بحلول موعد الإفطار ،فأفطر الجميع ،وبعد الإفطار تبين للجميع أن الشمس لم تغرب بعد لأنها كانت محجوبة بسحب داكنةقال والدي:لا يهم نحن أفطرنا "على رقبته"
****
لم يكن إفطارنا باذخا كما يحصل الآن..ولكنه لم يكن يخلو أبدا من خبز الغنّاي،والشربة العربي اللذيذةولم نكن محتاجين إلى التسوق لتوفير حاجياتنا ،باستثناء الشاي والسكر والقهوةفقد كانت الوالدة تستعد لهذا الشهر منذ زمن طويل:تملأ أربع جرار بزيت الزيتون،وتحضر الفلفل الشائح وبقية الأفاويه والتوابل بيديها الصناع!!
وكنا نملك الكثير من الدجاج والأرانب ، وكنت أعشق كل ما يُطبخ" بالدجاج العربي" ، ولا يمكن أن أنسى أبدا " ڤازوزة" السينالكو أو الجبسي كولا التي كنت أضعها في سطل ماء بارد قبيل المغرب بساعتين،وأضل أترشفها في انسجام وانشكاح بعيد المغرب بوقت طويل ولا أترك أحدا ينال " جغمة "منها إلا بعد " تلحليح"طويل ، فقد كانت أقصى متعة متاحة في ذلك الوقت !
***
بمجرد أن ينتهي الأهل من إفطارهم !!وبعد أن يتوجه الوالد إلى المسجد /الحجرةتخلو لنا الأجواء نحن الصغار وتبدأ ليالينا الرمضانية التي لا تنسى!!النساء يجتمعن كل ليلة في منزل يحددنه سلفا!!وكل أم تصطحب معها جميع أطفالها:الصغير والكبير والذي"يدبي" على الحصير ولا يسالن أحد عما يحصل من صخب وهرج ومرج !!
الأسرة المضيفة تبدأ السهرة بتوزيع الحلويات التقليدية المنوعة على جميع الأطفال وبعد أن يختطف كل طفل نصيبه الذي يقل ويكثر حسب شطارته نتفرق جميعا لنلعب ألعابنا التي نتوارثها جيلا بعد جيل دون أن يغير أحد من قواعدها المرسومة بدقةولعل أشهر تلك الألعاب هي لعبة "عظيم السارية"،التي لا يمكن ممارستها إلا تحت ضوء القمرولم نكن نفصل في ألعابنا بين الأولاد والبنات!! كان أحدنا يقوم برمي عظم أبعد مسافة ممكنةوالمطلوب من الجميع البحث عنه بجانب النهر المليء بالأعشاب والأشواك وعلى كل من يعثر على العظم أن يوصله إلى نقطة متفق عليها سلفا دون أن يتفطن إليه أحد ولا ينجح في ذلك إلا إذا كان يتقن فن ضبط الأعصاب،لأنه لو تفطن أحد أنه عثر على العظم ،فسيشبعه الجميع ضربا..وكنا نغش فنونا شتى من الغش فقد كنا نحضر عظما،احتياطيا،غير العظم الأصلي،لنعلن في كل مرة أننا من عثر عليه فتثار معارك قد تُشج فيها رؤوس وتُدمى أطراف،ويبكي من يبكي ويشكونا إلى أهله من يشكو،وينسحب من ينسحب.
***
بعد انتهائهم من صلاة التراويح ،يجتمع الرجال في بعض الدكاكين المتواضعة ،التي تبيع المواد الغذائية حيث يفترشون حصيرا بالية ويلعبون الورق ويشربون الشاي ويثرثرون ومع منتصف الليل يعود الجميع ،كل إلى أسرته للخلود للنوم ساعات قليلة قبل الإستيقاظ للسحوروكنا نحن الأطفال نحرص حرصا كبيرا على مشاركة الأبوين سحورهما مع أننا لم نبلغ بعد سن الصوم:عندما نتفطن أن الوالدين قد اسيقظا للسحور ،نفعل أي شي لننبههما أننا لسنا نائمين :نتنحنح ،ننادي الوالدة ونطلب منها شربة ماء.. فتبتسم وتدعونا أن نشاركهما طعام السحور الذي كان دائما متكونا من الكسكسي بالحليب أوالحليب الرائب وبعض التمر!!وبعض البقول الطازجة.
****
كان الكبار يغروننا بالصوم ويرغبوننا فيه بشتى أساليب الإغراء تارة وبالوعيد تارة أخرى!!
كانوا يصفون الصائمين منا نحن الأطفال "بالرجال" ويعدوننا ب"مهبة" منتفخة يوم العيد!!ويعفون الصائمين منا من بعض الأعمال الفلاحية المرهقة،ويشركوننا معهم في وجبة الإفطار
أما المفطرون فكانوا يتوعدونهم بأن يتناولوا إفطارهم يوم العيد في نفس الإناء مع كلب!ويعاملونهم بازدراء واحتقار ويرفضون إشراكهم معهم عند الإفطار .
فكنا ندعي الصوم !ونشكو العطش والجوع!ونظهر أننا مرهقون ومتعبون بتأثير الصيام!!
مع أننا "ترسنا" معدنا بما لذ وطاب من بقايا إفطار اليوم السابق!بعد أن نكون قد تواطأنا مع الهذبة ابنة عمنا الكبرى .
التي كانت ،رحمها الله،تسهل لنا الأمور لقاء أن نمنحها بعض الملاليم التي نحصل عليها من هنا وهناك لتقتني بها حلوى طحينية ،حلواها المفضلة التي لم تكن تشبع منها،عفا الله عنها وغفر لها!!
فقد كانت فتاة طيبة و"على نياتها".
فقد كانت تعاملنا مثل أم حنون ،ولم تكن تعدم حيلة لتبرير غياب الأكل في المطبخ!!
وكنا نحن نثقل عليها ،سامحنا الله،ونضطرها بإلحاحنا واستعطافنا أن تتدبر لنا بطريقتها الأكل والحلوى وما تيسر من الأطايب التي كانت أمهاتنا تخفين النفيس منها في أماكن مجهولة لا تطلع عليها إلا الهذبة
ومازلت إلى اليوم كلما زرت قريتي النائية أجلس بجانب قبرها أقرأ الفاتحة وما تيسر من الذكر على روحها.
وأدعو الله أن يكون رحيما بها مثلما كانت رحيمة بنا.
ولكن الأمور لم تنته على خير!!
فقد حصل أن "أتينا "على كل ما وجدناه في مطبخ العائلة!وحين وصل ابن خالي"علي" من مدرسته بعدنا لم يجد شيئا .
مع أنه نبهنا منذ الصياح أن نبقي له شيئا من "المعكرونة" عندما نعود قبله إلى البيت!!
فلم يكن منه إلا أن كشف كل الحكاية للأهل!!نكاية بنا,,,,
وكان رد الأهل قاسيا جدا:حرماننا من الإفطار !!وتكليفنا بالبقاء واقفين في الخارج حتى انتهاء وجبة الافطار.
ولعل أفظع من عقوبة الأهل :افتضاح أمرنا أمام من أوهمناهم أننا قادرون على الصوم مثل الكبار والصبر على الجوع والعطش مثلهم ، وبالتالي ضياع رصيد التقدير والإعجاب اللذَيْن كسبناهما عندما روجنا كذبة التزامنا بالصيام .
ولم تضيع نعيمة بنت الحرام الفرصة كما هو دأبها دائما ، ومع أنها كانت تفطر معنا سرٌا فقد كشفت لهنية أنني إضافة إلى عدم التزامي بالصوم ،لم أكن مواظبا على الصلاة كما كنت أوهمها، وأنني عندما اتجه للحجرة التي اتّخذت مسجدا، كنت ألعب " الكارطة" مع المنصف ولد عمّي!
وقد نالت العقوبة ابن خالي عليا أيضا الذي أشبعناه قرصا وركلا وشتيمة
بعد هذه الحادثة فرضت علينا رقابة شديدة وأصبحنا نخضع لحملات "تفتيش وتدقيق منتظمة"!ومفاجئة !!فنؤمر بفتح حلوقنا للبحث عن آثار الطعام !!وإفراغ جيوبنا من كل ما فيها من دراهم حتى لا نقتني ما يمكن أكله،كما تم سحب الامتيازات التي كانت تتمتع بها الهذبة ابنة عمنا الكبرى، ولم يعد يُسمح لها بالاقتراب من المطبخ نهارا.
وهو ما جعلنا نستنبط حيلا شيطانية أخرى للحصول على الطعام، انكشف بعضها وبقي البعض الأخر سرّا سنوات طويلة.