دخلت مهنة الصحافة من الباب الخلفي في 1989 حين قال عني الزميل العزيز إبراهيم الصغير الخليفي في جريدة الصحافة وقتها "عنده القماش" لكنه لم يتسرع ولم يقل لي شيئا عن طرق فصالة القماش، كنت أكتب بطريقة غريزية ولا أفرق بين الخبر والتعليق، حتى أغراني الراحل صلاح الدين العامري بالالتحاق بجريدة الشروق في جانفي 1990،
تنازلت عن أجر جزيل ووضع مريح هربا من صحافة النظام التي لا يكاد يقرأها أحد جريا وراء صحافة التحدي والقصص الإنسانية والمبيعات، إلا أني أضعت أشهرا طويلة دون أن أعثر على طريقي الصحيحة وكثيرا ما عيرني زملائي بأني دخيل: "صحيح أنك تكتب جيدا، لكن لا علاقة لما تكتبه بالمهنة".
من هو الدخيل ؟ أية أسرار في مهنة الصحافة ؟ لماذا أغلب زملائي وقتها من خريجي اختصاصات أخرى ؟ دون إضاعة الوقت، قررت أن أثني الركبة وأعيد اختراع العالم بدخول معهد الصحافة بحثا عن الفصالة للقماش الذي رآه صديقي إبراهيم الصغير الخليفي، أربع سنوات من الفضول والبحث والإلحاح، أكثر من نصف المواد لا تستحق أن تدرس، قليل جدا من العمل التطبيقي وكثير من الدروس النظرية. تستطيع أن تحصل على الشهادة دون أن تكتب سوى بضعة عشرات من المقالات.
أزعجت كثيرا أساتذتي: محمد الفهري شلبي في تقنيات التحرير، عبد الكريم الحيزاوي، توفيق يعقوب، حتى الأستاذين الفاضلين سكيك وسكيكة، بورقيبة بن رجب، أما الأمين عواصة فلم ينزعج من فضولي المفرط أبدا لأنه لا ينزعج أصلا حتى من أحمد الصالحي الذي كان قادرا على بث الفوضى في المعهد كله،
كان عليّ دائما أن أعتذر: "أنا مستعجل جدا، أريد أن أفهم الفصالة" وأجمل الدروس كانت في مدرج المشرب في منفلوري، خرجت من معهد الصحافة بشهادة الأستاذية وبداية قرح في المعدة لأني أصبحت من أصحاب الوجبة الواحدة في اليوم مع كثير من السجائر والقهوة المرة والعصبية، بسبب صعوبة الجمع بين الدراسة والعمل في جريدة خاصة آخر ما يهمها أن أحصل على شهادة، والدليل: خفضوا من أجري الشهري 12 دينارا عندما قدمت لهم الشهادة،
بعدها أصبح بإمكاني أن أبحث عن إعطاء معنى لما يحدث أي الفصالة، ريبورتاجات وتحقيقات، كتبت مقالات كثيرة وأنا أبكي واكتشفت أن مشاعري الخاصة لا علاقة لها بعلم الصحافة: علم طرح الأسئلة الحقيقية، لقد مكنني أساتذتي الأجلاء في معهد الصحافة من مفتاح باب علم طرح الأسئلة الحقيقية، إنما استعدت دائما السؤال: هل الصحافة موهبة وقماش كما دخلتها في عام 1990 أم فصالة وعلم كما هي في معهد الصحافة ؟ الجواب قاله لي يوما صحفي أكاديمي في جامعة CFJ الفرنسية ونحن نناقش منافسة شبكات التواصل الاجتماعي وصحافة المواطنة:
y’a que les vrais journalistes qui peuvent donner un sens à l’actualité
بعدها، تشاهد خليفة الطرابلسي بن سالم يحاور الرئيس: لاباس لاباس، الأضرار جانبية، ثم هو ليس خطأه ولا خطأ الصحافة، إنه خطأ الوضع الكارثي الذي نحن فيه.