حتى لا يقتلك الجوع والبرد
معضلة هذا البلد هي الغوغاء مثل سوق بغداد في زمن الجاحظ: "وجدتهم يضربونه فضربت معهم ابتغاء الأجر"، وبعض المحسوبين على الصداقة التخيلية هنا، يسارعون إلى أسوأ ما أنتجته محاكم التفتيش في إسبانيا: "صار أنت إخوانجي؟"، يقول لك الآخر: "صار أنت يساري كافر ؟" اللهم عافنا،
يذكرني ذلك بتدوينة لزميل عراقي: "تلبس دشداشة يكتلوك الأكراد، تلبس كردي يكتلوك العرب، تلبس شماغ أحمر يكتلوك الشيعة، تلبس عمامة يكتلوك السنة، تلبس بنطلون يكتلوك داعش، ما تلبس شي يكتلك البرد"، والمعضلة هي في الأحكام المسبقة، ونحن التونسيون اخترعنا تحت عقود القمع طرقا أخرى لمحاكم التفتيش: "أنت معنا أو مع الآخرين؟"، أنا معكم، يقال لك بسخرية: "يا خائن، نحن الآخرون"،
ولما تقول لهم إنك في الواقع لست بحاجة لأن تكون مع أحد، يعتبرونك مندسا، و"يكتلك البرد والجوع"، وفي زمن مجد نظام بن علي، كان الناس يقولون: "أنا مع الرئيس ضد الحكومة والشعب"، واليوم هم مع من عنده ملفات، تسريب أو وثيقة، أكبر نضال في هذا العصر الكئيب هي أن تكون موضوعيا، لست محايدا، فقط الحد الأدنى من الموضوعية، سوف يقتلك الجميع بدءا بالجوع والبرد، جرب ؟
تدويل جريمة اغتيال شكري بلعيد
"تدويل جريمة اغتيال شكري بلعيد"، لا أدري بعد إن كان المقصود به مجرد الضغط الإعلامي، أم حقا نقل القضية إلى قضاء غير تونسي، لكن "حكاية التدويل ما تجيش خلاص" بل ستكون لها نتائج كارثية،
لست خبيرا في القانون الدولي، لكن من الصعب إقناع المحكمة الجنائية الدولية الدائمة بهذه الدعوى فلسنا بصدد جرائم تعذيب حكومي ممنهج أو إبادة أو جرائم حرب ومن المستحيل إقامة محكمة خاصة مثل قضية الحريري في لبنان التي تمت بطلب من الدولة اللبنانية،
بقي أن الكثير من الدول الأوروبية من باب الشبع بحقوق الإنسان تجيز لمحاكمها النظر في جرائم مواطنين من مخلفات مستعمراتها على أساس عجز قضاء تلك المستعمرات على إقامة العدالة، واخترعت مبدأ اسمه "كونية الجرائم"،
غير أن هذه الدول سريعا ما تراجعت عن هذا المبدأ لما تعلق الأمر بدعوى ضد جنرال الحرب الصهيوني شارون وغيرت قوانينها كما فشلت الدعوى في بريطانيا ضد الجنرال الصهيوني موفاز، أما الدعوى التي أقامها ضحايا من الشيلي ضد الجنرال بينوشي في إسبانيا أو بلجيكا فانتهت إلى لا شيء بحجة تقدم بينوشي في السن،
إن إقناع قضاة بلجيكيين مثلا بقبول دعوى في إطار كونية الجرائم عن أحداث وقعت في تونس بين تونسيين، لا يملك أي أمل، لأن حيثية الدعوى يجب أن تقدم حججا مقنعة على عدم أهلية القضاء التونسي بكل مراحله لتحقيق العدالة،
وقبل ذلك يجب أن يكون القضاء التونسي عبر هياكله الرسمية وممثليه قد خرج من المجتمع الدولي وتعذر التواصل معه أصلا، "حكاية حولة" تماما،