معضلة المثقّف عندما يكون سياسيّا أنّه أحيانا يستسلم لمنطق المعرفة القائم على التشخيص و التحليل و عدم المجاراة و المناورة و المراوغة في عرض أفكاره و قناعاته و تصوّراته ، لأنّ صاحب المعرفة ليس معنيّا كثيرا بعمليّة التقبّل إلا في حدود التواصل المعرفي.
في مقابل ذلك ينشغل السياسي بالنجاعة و النفعيّة في التواصل بشكل يمكّنه من البقاء و الانتشار و الفاعليّة و الإقناع والتّأثير و الإشعاع و كسب الأنصار و تحييد الخصوم أو تبكيتهم عن طريق ثقافة الحجاج و السّجال و الجدال و لو على حساب الحقيقة المعرفيّة .
السياسي الشّريف و النّاجح هو الذي يوازن بين النفعيّة و المبدئيّة ، بحيث لا يُفقِدُه التعبير عن المبدأ والصدقيّة في عرض أفكاره مصداقيّته السياسيّة التي لا تقوم فقط على المبدئيّة و الصدقية في التعبير عن الأفكار المنسجمة معرفيا و لكن كذلك على النّجاعة التواصليّة و مراعاة تفاوت وعي التقبّل بين فئات المجتمع و كذلك تربّص المتربّصين ، و في اللغة و المعجم عدد لا حصر له من إمكانات التّعبير حسب اختلاف المقام و السّياق .
فشل الكثير من السياسيين لأنّ خطابهم و رؤيتهم و تحليلهم للواقع يعكس فقرا معرفيّا و منهجيّا لذلك انزاحوا إلى السطحيّة و الشعبويّة و الدّيماغوجيا و الدّعاية و الإسفاف أحيانا لتغطية ذلك النّقص الفادح في ثقافتهم و معارفهم و قدرتهم الذهنية على استيعاب حراك الواقع و تطوّراته و استشراف المستقبل .
كما فشل الكثير من المثقّفين لأنّهم تعاملوا مع الفعل السياسي بسلطة صاحب المعرفة و انبروا يسقطون قناعاتهم و تصوراتهم على الواقع كأنّها حقائق مطلقة حتميّة و لم يستوعبوا أن الواقع متغيّر خاصّة في المنعطفات التاريخيّة التي تفتح الباب لتحوّلات نوعيّة من داخل أنساق المجتمعات لا بفعل قوانين تغيير جاهزة.
السياسة العصريّة اليوم هي مهارة التّاثير في الواقع في الاتّجاه الذي يجسّد المصلحة العامّة ، و هي مهارة يتداخل فيها عنصر المواهب الشخصيّة و التّجربة الإنسانيّة و الرّصيد الثقافي و المعرفي ،
بهذا الشكل يكون تزاوج الثقافة و السياسة ثراء للثقافة و للسياسة على حدّ سواء.