لست أدري ما الذي أغضب حداثيينا وتقدّميينا وأثار تشنّجهم فأصبحوا حرّاسا أمام باب التّاريخ يؤوون إليه من يشاؤون ويخرجون منه من يشاؤون .
شكّل رئيس الدّولة بمقتضى صلاحيّاته الدّستوريّة لجنة من الخبراء لإعداد تقرير عن وضع الحقوق الفرديّة والمساواة في المنظومة القانونيّة وأعداد مقترحات تشريعيّة بديلة لما بدا لهم منافيا للحقوق والمساواة ضمن المعايير التي حدّدوها وحدّد لهم الخطوط العامّة التي عليهم التزامها " تجديد في دائرة الاجتهاد الإسلامي " ....
مهما كان الموقف من تمثيليّة اللجنة وانتماءات أعضائها ومرجعياتهم الفكريّة و مهما كان مقدار الخطإ والصّواب في هذا الجهد فهو ضمن مسار تأويليّ للملاءمة بين الدّستور والمواثيق الدّوليّة للحقوق والمنظومة القانونيّة وفق المعايير والمناهج التّأويليّة والاستقرائيّة التي اختاروها.
صدر التّقرير سانده من ساند وخالفه من خالفه بأشكال تعبير متفاوتة من حيث التعقّل والتشنّج ...
بعض العوامّ و المتحمّسين من المتديّنين الذين لا وزن لهم في حراك المجتمع والفكر عبّروا بانفعالات منفلتة ومغالاة بالغة في استهداف أعضاء اللجنة و رئيستها وصلت حدّ الدّعوة إلى إقامة الحدّ عليها في السّاحة العامّة وكان ذلك محلّ انتقاد من الغالبيّة .
بعض عوامّ النّخبة من ذوي الإيقو المتضخّم الذي يفكّرون من داخل أنساق أيديولوجيّة مغلقة لم يكونوا أقلّ انفعالا فلم يكتفوا بالمساندة بل أطلقوا على كلّ رافض لهذا التّقرير أو منتقد له كلّ أشكال الوصم والتّكفير الحداثويّ .
نظّمت جامعة الزّيتونة عددا من النّدوات العلميّة وعبّرت من خلال إطارها العلمي عن موقف أوّلي من هذا التقرير بعد قراءته كما أعلنت يعكس مرجعيّة هذا الإطار ومناهجه في الاستقراء والنّظر ، مهما كان مقدار الخطأ والصّواب في هذا الموقف فهو ضمن نفس المسار التأويليّ للملاءمة بين الدّستور ومقتضيات الهويّة كما يرونها .
هو وضع طبيعيّ في دستور حمّال أوجه صيغ في سياق أشبه بالولادة القيصريّة من خلال توافقات في كثير منها قسريّة وضع كلّ طرف فيها ما يرضي قناعاته ... كلّ هذا الجدل مهما كانت مرجعياته ووسائله هو في صلب الرّاهن التّاريخي بين تيّارات الواقع الاجتماعيّة والفكريّة والسياسيّة مهما كان تناقضها …
الذين اعتبروا مخالفيهم خارج التّاريخ " بألف ولام الاستغراق " لأنّهم فكّروا بطريقة مختلفة عنهم لا يختلفون عمّن وضعوهم هم أنفسهم خارج دائرة الإسلام لأنّهم أوّلوا الإسلام بطريقة مختلفة عنهم …
ليس هناك قيّمون على التّاريخ ولا كهنوت في الدّين … الجميع سواء في حقّ تقدير ما يفترض أنّه أقرب إلى الصّواب وأكثر تحقيقا للمصلحة .
هذا سياق مدني يمكّن الجميع من الحقّ في التّفكير والتّأويل والتّعبير … ليس هناك صواب في ذاته يستمدّ صوابيّته من سلطة قائله المتعالية … وتمرّ كلّ تلك الأفكار بصوابها وخطإها على المسبار الدّيمقراطيّ من خلال المؤسّسات الممثّلة للشّعب وضمن منظومة مدنيّة تسمح بالنّقد والرّقابة والضّغط …
كلّ من يرفض المنظومة الدّيمقراطيّة ومقتضياتها هو خارج التّاريخ الرّاهن للبلد ومساره الإصلاحي الثّوري … مهما كانت مرجعيّته وطريقة تفكيره …