لماذا لا تعترضون على إبطال العبوديّة و تعدّد الزّوجات وقد تعلٌقت بها نصوص صريحة ؟
لماذا تصرّون على قطعيّة الإرث دون كثير من المسائل التي تغيّرت مع تطوّر الواقع ؟
لماذا ترفضون المساواة بين الأخ و اخته في مال والديهما ؟
بأيّ حقّ يكون للأخ ضعف نصيب أخته و كلاهما مقبل على الحياة و تكاليفها ؟
لماذا هذه الأنانيّة والاستئثار والتمييز بين الأخ و اخته؟
لماذا تشيدون بالفهم المقاصدي و تحتفون بأعلامه تدريسا و تأليفا و لا تلتزمونه في تناول مسألة الإرث ؟
هذه بعض من الأسئلة التي تطرح هنا و هناك لا بصيغة الاستفهام فحسب بل كذلك بصيغة الإنكار و الاستنكار و تسفيه المقاربة التي يراد دحضها في سياق الجدل الذي أثير مؤخّرا .
لا نريد الانخراط في سلوك مناكفات النّفي و الإثبات، او الدّحض و الانتصار لمقاربة تبدو لنا غير قابلة للتعقّل إلا في علاقتها بنصّ قطعيّ مقدّس لا يقبل إلا الامتثال التّسليمي دون تعليل ، لا نريد تبكيت أحد أو إفحامه أو رميه بحجّة دامغة ، لا نريد دمغ أحد حتّى ولو كان دمغا مجازيّا ، فقط نريد فتح آفاق للتمثّل الموضوعي للمسائل بعيدا عن الخلط و التلبيس .
كلّ دارسي الحضارة الإسلاميّة و المتخصّصين في تأويل النصّ المؤسّس لهذه الحضارة يعلمون أنّ هذا النصّ لم يؤسّس للاسترقاق و لم يشرّع له بل وجده سابقا وماثلا لحظة التنزيل ، الجميع كذلك يعلم السّعي لتحرير العبيد و قصّة بلال الحبشي خير دليل على ذلك ، ساوى الإسلام بين جميع البشر و رفض التمييز على اساس العرق و اللون و الشّكل و النّصوص في ذلك كثيرة ، لكنّه تفاعل مع واقع تاريخيّ الرقّ فيه ممارسة متجذّرة ، وكانت أشكال التّفاعل متعدّدة:
- الشكل الأخلاقي من خلال التّشجيع على عتق الرّقيق " فكّ الرّقبة " و التبشير بثوابه و أجره الأخروي.
- إدراج العتق في الكفّرات كشكل فقهي لفتح باب تحرير العبيد.
- إقرار نظام المكاتبة الذي يسمح للمُستَرَقّ عبدًا و أمةً بإمضاء عقد بينه و بين مالكه يتمّ بمقتضاه الخروج من ربقة العبوديّة مقابل عمل أو مهمّة أو مبلغ ماليّ متّفق عليه بينهما .
- إقرار مصرف في بيت المال موجّه لعتق الرّقاب.
- إقرار تشريعات تخصّ حسن معاملة الرّقيق الذين لا يزالون في وضع الاسترقاق ترتقي إلى درجة الحقوق و الواجبات و إمكان التقاضي عند انتهاك هذه الحقوق و الإخلال بهذه الواجبات.
كلّ هذه المعطيات ماثلة في التّاريخ و مقرّرة في النّصّ المؤسّس و التجربة النبويّة ، و لم تضمحلّ رغم انحراف المسار التّاريخيّ عن اتّجاهها القائم على تضييق مداخل الاسترقاق و توسيع مداخله انطلاقا ممّا استقرّ لدى عموم الفقهاء من تشوّف الإسلام للحريّة ، لذلك لم يُقَابَل إلغاء العبوديّة بحركة من الرّفض على أساس دينيّ أو اجتماعيّ أو اقتصاديّ.
لا يختلف الأمر كثير عن تعدّد الزوجات حيث تقتضي فلسفة الزّواج التي أقرّها النصّ والقائمة على السّكن و المودّة و الرّحمة أن يكون الزّواج بين شريكين اثنين ، و لم يذكر التعدّد إلا في سياق خاصّ في تركيب شرطي " و إن خفتم إلا تقسطوا في اليتامى ...." فكان التعدّد حلا استثنائيّا لوضعيّة اجتماعيّة غير شائعة مع التنفير منها خشية الوقوع في الظّلم و كذلك مع إقرار عدم إمكان العدل بصيغة توكيد حاسمة " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النّساء و لو حرصتم ..." لذلك قبل التشريع الإسلامي من المرأة أن تشترط في عقدها عدم التعدّد و لم يعتبره مخالفة للشّرع و إرادة الله ، بل اعتبر التعدّد من المباحات التي يمكن تقييدها ومنتهى التقييد هو المنع ، و على مستوى الممارسة الاجتماعيّة في البلد العربي الوحيد الذي قنّن المنع لم يكن التعدّد يتجاوز نسبه الواحد بالمائة ، لذلك يُقَابَل منع التعدّد بحركة رفض على أساس دينيّ أو اجتماعي أو اقتصادي.
و نفس المنطق ينسحب على تنصيف شهادة المرأة والطلاق أمام القضاء و الحدود و غيرها من المسائل التي نسخت بالنصّ ذاته أو طرأ عليها تجديد ينسجم مع روح النصّ و مقاصده.
فلماذا لا ينسحب نفس المنطق في النّظر و الاستدلال على الإرث ؟
ألا يتشوّف الإسلام للمساواة التامّة بين الذّكور و الإناث المشمولين بالتّركات ؟
لماذا تتوقّف المقاربة التٌاريخيّة و القراءة المقاصديّة عند قوله تعالى " يوصيكم الله في أولادكم للذّكر مثل حظّ الأنثيين "؟
لماذا لا يعتبر هذا النّصيب هو الحدّ الأدنى الذي لا يمكن النّزول عنه دون أن يمنع من تجاوزه ؟
لن نستدلّ في التّفاعل مع هذه الاستفهامات بقطعيّة الآيات المتعلّقة بالمواريث و عدم وجود قرائن تدرجها ضمن التأويليّة المقاصديّة، حيث لم يمنع ذلك الفقهاء من الاختلاف حول بعض مسائل الإرث تأويلا و تشريعا ،
كلّ ما في الأمر وهو ما يجب أن يفهمه دعاة التّسوية الكاملة أنّ الإرث منظومة متكاملة تقوم على الموازنة بحسب معايير ليست دائما الذّكورة و الأنوثة في حدّ ذاتها ، لذلك لم يكن التفاوت في الأنصبة دائما في غير صالح الإناث بل استفدن منه في حالات متعيّنة ، كما ترتبط منظومة الإرث ببنية الأسرة و التشريعات التي تنظّمها إنفاقا و حضانة وحقوقا وواجبات ... ،
لذلك من اعتبر أنّ الواقع الرّاهن للأسرة و المجتمع تغيّر بالشّكل النوعيّ الذي يقتضي تغيير بنية الأسرة و التّشريعات التي تنظّمها -وهذا يحتاج اقامة الدليل عليه من وجه علميّ لا ادّعائيّ- فليغيّر كامل المنظومة برمّتها ولا يكتفي بتعديلات جزئيّة تشوّش على هذه المنظومة وتربك نظام الأسرة ،
أمّا اعتبار الإسلام دينا روحيّا خالصا و كلّ ما ورد فيه من أحكام و تشريعات و تصورات لتنظيم المجتمع و العلاقات العامّة و الخاصّة هي تاريخيّة مقصورة على زمن التنزيل و بالتالية لاغية ، فذلك ضرب من الكسل الذّهني و الهروب من مواجهة مشكلات المعنى و التّأويل و قضايا الهويّة و الحداثة المتلازمة و لا يمكن لأحد مكوناتها أن تلغي الأخرى إلا بمنطق في الفهم و التمثّل و التّأويل والتنزيل سليم و معقول و متقبّل اجتماعيّا، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.