كنّا من أبناء نفس الحيّ الشّعبي ، تعارفنا في دار الثّقافة قبل الجامعة ،
عرفت دار الثّقافة جبل جلود بإجماع كلّ روّادها الذين ألتقيهم عهدها الزّاهر في الفترة التي كان فيها والدي عبد الحميد براهم رحمه الله مديرا للتنشيط والبرامج ، كان زيتونيّا متقاعدا من التعليم الابتدائي ، محبّا للثقافة و الأدب والفكر ، لم يقتنع بالتّقاعد عن العمل ، شغل مدرّس تقوية للتلاميذ و لتقوية الرّصيد المالي لعائلة مكوّنة من تسعة أبناء ووالدين ، حتّى عرض عليه العمل في دار الثّقافة الذي شغله إلى يوم وفاته ،
كانت دار الثقافة جبل جلود الفضاء الوحيد الذي يحتضن الأنشطة الثقافية والفنيّة والفكريّة والأدبيّة في ذلك الحي المنكوب ، فضلا عن الأنشطة الثقافية المقنّعة ذات الطّابع الدّعائي للحزب الحاكم على عادة النّظام القديم في استغلال دور الثقافة ، لكن عموم الأنشطة الثقافية كانت جديّة ومنفتحة على الجميع ، وكان لليساريين من الحزب الشّيوعي أساسا أو من بقيّة الفصائل ولليساريين المنخرطين في الحزب الحاكم وللنقابيين وعدد من المثقفين الحضور البارز ، تربّيت في هذه الأجواء الثقافيّة قبل أن يشغل الوالد خطّته الجديدة بعدّة سنوات، مسرح موسيقى رسم نحت ندوات فكريّة مهرجانات …
في هذه الأجواء الثقافيّة الزّاخرة بالحركة و الإبداع تعرّفت على شكري بلعيد ، كان أوّل لقاء غير عرضي بيننا بمناسبة نشاط نادي القصّة الذي كان يشرف عليه وذلك في حصّة خصّصت لسماعات قصصيّة ، كنت عرضت فيها قصّة عن أحداث الخبز بعد سنة من وقوعها ، استمع بانتباه ووجّه إليّ بعض الملاحظات المضمونيّة والشكليّة،
أوّل موقف تمايز أو اختلاف كان بمناسبة النّقاش حول الحركة الكشفيّة ، لم يكن له موقف سلبي من الحياة الكشفيّة في حدّ ذاتها ولكن موقفه كان من ملابسات تأسيسها وانتسابها للّورد روبارت بادن باول ، كنت كشّافا منذ سنّ السّادسة وكانت الكشفيّة ملاذا لطفل ومراهق في حيّ شعبيّ لا تتوفّر فيه أيّ أطر للتربية والترفيه ،
الموقف الثّاني اللافت كان بمناسبة تأسيس نادي الفكر ، حيث وقع خلاف حول الإطار المشرف هل يعيّنه المدير العامّ الذي كان من الحزب الحاكم أو يقع انتخابه ، وقع الاتفاق على الانتخاب وتحديد برامجه بالتنسيق مع الإدارة ، يوم الانتخاب فوجئ شكري بتواجد كثيف لروّاد من دار الثّقافة محسوبين على الإسلاميين ، واستشعر أنّ المسألة مدبّرة أو كيديّة بينما كان الأمر تلقائيّا واستجابة للإعلان عن انتخابات لتأسيس ناد للفكر ، اعتبر شكري أنّني مسؤول عن تحشيد ذلك العدد من روّاد دار الثّفافة لافتكاك النّادي ، فوقع تأجيل الانتخابات لتعقد في يوم آخر وتحسم في الاتّجاه الذي أريد لها ،
عندما ابتدأ النّادي نشاطه طرح عديد القضايا الفكريّة الجديّة ، لم اقاطع جلساته الحواريّة رغم الجدل الذي أثير حول الطريقة التي انتخبت بها هيئته ، كنت كلّما فتح باب للنّقاش وأُبدي رأيا يتفاعل معي شكري ويعبّر عن تفاجئه بأن تصدر عنّي هذه الآراء و بعد الجلسة يبادرني بالسّؤال هل هذه قناعاتك حقّا ؟ ويضيف " خسارتك تتبّع في الخوانجيّة "
لم يكن لكلمة خوانجيّة الدلالة العميقة للوصم عند تلميذ مازال غريبا عن التجاذبات الايديولوجيّة والاصطفافات الحزبيّة، وبمرور الأيّام أصبحت سبّة وأداة للعزل.
تواصلت العلاقة أيّام الجامعة كنت طالبا مستقلا وكان قياديّا في الاتحاد العامّ لطلبة تونس ، تغير موقفه مني بشكل أكثر حدّة ،حيث اعتبر قربي من الإسلاميين ضربا من الخيانة ، كان يتصوّر أنّ الثّقافة و " الخوانجيّة " كما يقول ضدّان لا يلتقيان ،
لم يكن له موقف عدائيّ تجاه أشخاص الإسلاميين في حدّ ذاتهم بل تجاه مشروعهم الذي كان يعتقد أنّه لا يمكن أن يكون إلا ظلاميّا معاديا للحرية والثّقافة إضافة إلى قراءة تاريخيّة ترى في تيّار الإسلام السياسي إقليميّا صنيعة مخابراتيّة استعماريّة لضرب قوى التحرّر في المنطقة ،ومحليّا صنيعة النّظام الحاكم لضرب الرّفاق.
ثمّ افترقنا أنا إلى السّجون و هو في سفر دراسيّ ... وبعد زمن لم تكن كلّ تلك النقاط الخلافيّة و الأحكام القاسية سببا للخصومة أو انقطاع المودّة والتّواصل ، بل لم نتصادم ولو مرّة واحدة ، رغم حدّة المواقف والأحكام ، كنت أقدّر أنّه " ولد حومة " قبل أي شكل آخر من الاصطفاف ، عندما كنّا نلتقي في الحومة في المقهى أو دار الثّقافة كان لكلّ منّا الكثير من الكلام ليقوله للآخر ، لكن موانع خفيّة كانت تحول دون ذلك ... تمنّيت بعد اغتياله لو أنّنا تحدّثنا ربّما لتبدّدت الكثير من المواقف والأحكام المسبقة والجاهزة...
يوم اغتياله سقطت كلّ تلك الاعتبارات ولم تبق إلا الأجواء الحميميّة للحومة ودار الثّقافة والشّعر والقصّة والموسيقى والحوارات الفكريّة ، واستحضرت العائلة الملتاعة وأخاه الذي كان صديقا مقرّبا تعلّمت الكثير من محاوراته وقراءاته ولا يزال محلّ احترامي وتقديري …
تصوّرت أنّني سأكون من بين المعزّين والمشيّعين لقرب الجوار وسالف العهد بالعشرة لكن كلّ من كان يمتّ للإسلاميين بصلة كان متّهما بالمشاركة في اغتياله وممنوعا بقرار رسميّ من المشاركة في مراسم التشييع ، استأذنت للحضور فقيل لي لا نأمن عليك من ردود الفعل الغاضب ،
كنت أقدّر مشاعر الغضب من طرف رفاقه فقد كان اغتياله نكبة للعائلة سواء بالانتساب الدّموي أوالسّياسي، وفاته خسارة عاطفيّة مطلقة لعائلته وخسارة سياسيّة لا تعوّض لرفاقه ، لم يكن شكري قبل اغتياله زعيما وطنيّا لكنّ اغتياله كشف عن أنّه كان بحجم زعيم وطني ، كان شديدا حادّا مع خصومه التقليديين لكن من يقترب منه لا يمكن أن يغفل فيه البعد الإنساني العميق ،
بحكم اشتغالي على مسألة التطرّف والإرهاب كانت لديّ قناعة راسخة أنّ اختياره هدفا للاغتيال لم يكن اعتباطيّا أو انتقاميّا بل كان مدروسا بشكل جيّد لإرباك الوضع السياسي وتحريف مسار الثّورة وتخريب مخرجاتها.
في حوار مع أبو بكر الحكيم مهندس الاغتيالين في مجلّة دابق لسان حال داعش باللغة الانجليزيّة سُئل عن القصد وراء عمليتي الاغتيال فأجاب لإحداث مناخات توحّش.
نعم أصبحت كلمة التوحّش وإدارة التوحّش عنوانا بارزا لعقيدة وخطّة استراتيجيّة لفرض مسار مواز لمسار الثّورة والتّأسيس الدّيمقراطي كان فيها شكري أوّل الضّحايا.
رحم الله الشّهيد شكري بلعيد قتل ظلما وعدوانا وغدرا وبرّد قلوب الملتاعين لفقده بإظهار الحقيقة.