إيران دولة إسلاميّة كبرى سياستها ذات منحى تدخّليّ ضمن مشروع و رؤية استراتيجيّة قائمة على سرديّة كبرى يتقاطع فيها البعد الديني و المذهبي و التّاريخي و السياسي و الاقتصادي ، لذلك تفرض علينا أن نكون معنيين بما يحدث فيها سلبا أو إيجابا .
التحرّكات الاجتماعيّة التي اتّخذت بعدا سياسيّا وصل حدّ التّساؤل عن طبيعة النّظام نفسه ، سواء تواصلت أو قُمِعَت أو وقع احتواؤها أو تصريفها تكشف عن جملة من الأوضاع و الإشكاليّات :
* فشل الثّورة في تحويل الشعار المركزي للثّورة " النّصر للمستضعفين " إلى سياسات اقتصاديّة و تنمويّة تحقّق العدالة و الرّفاه الاجتماعي رغم حجم الثّروات الطبيعيّة و أقدار من السيادة على القرار الوطني ... غلب الاقتصاد الليبيرالي على منوال الاقتصاد الإسلامي الذي ما بشّر به باقر الصّدر في كتابه الشّهير اقتصادنا و البنك اللاربويّ في الإسلام ... حيث وقع الاتّكاء على الطبقات الضّعيفة لمعالجة العجز في الميزانيّة واختلال الموازنات الماليّة و تفشّي الفساد من خلال التّرفيع في الجباية و الأسعار .
* استفاقة نزعة المصلحة الوطنيّة أوّلا إلى حدّ الشّوفينيّة من خلال الاحتجاج على حجم الهدر المالي و العبء اللوجستي للسياسات الخارجيّة للدّولة على حساب مقدّرات البلد و حاجات المواطنين ممّا يجعل هذه السياسات محلّ شكّ من حيث شعبيّتها و تعبيرها عن الإرادة العامّة للشّعب الإيراني في ظلّ نظام سياسيّ مزدوج المرجعيّة و الشرعيّة و السّلطة .
* إمكانيّة استفاقة النّظام السياسي الحاكم الذي اعترف بمشروعيّة جزء من التحرّكات الاجتماعيّة ووعد بالتفاعل مع مطالبها رغم صعوبة ذلك على مدى قريب، و نسب جزء منها للتأثير الخارجي الذي إن صحّ فهو كذلك دليل اختراق و قابليّة للاختراق استفاد من معطيات موضوعيّة محليّة تستحقّ الدّرس و التشخيص.
* الحاجة لإصلاحات عميقة و جذريّة لا فقط في المجال الاقتصادي و الاجتماعي و الحريّات و السياسات الخارجيّة بل كذلك على مستوى بنية النّظام السياسي الحاكم و هويّة الدّولة التي لم تستطع رغم السرديّات الدينيّة و التّاريخيّة الكبرى أن تمتصّ الاحتقان و تحتويه بل و تستبقه ... ممّا يطرح سؤال الاجتهاد على مستوى السياسة الشرعيّة في الفضاء الشيعي الإمامي .
* و تكتشف هذه التحرّكات أخيرا من منظور المتقبّل العربي و التّونسي خاصّة أمرين متناقضين :
أوّلا :حجم الكره لدى فئات واسعة تجاه دولة إيران إمّا من منطلق مذهبي طائفي أو من منطلق سياسي محمول بدافع خيبة الأمل حيال مواقفها منذ الغزو الأمريكي للعراق تعمّقت مع استغلالها لأوضاع المنطقة بعد ثورات الرّبيع العربي للتمدّد و التوسّع و التدخّل السياسي و العسكري المباشر و فرض وضع ديمغرافي و سياسي يتّسم بالهيمنة وسياسة فرض الأمر الواقع حيث لم تعد سرديّة المقاومة كافية للتّغطية على كلّ هذه السياسات و الأطماع ...
ثانيا : حجم الولاء لإيران لدى فئات أخرى من منطلق الولاء المذهبيّ العقائدي أو من منطلق قراءة سياسيّة للمحاور و التّحالفات في المنطقة أو في إطار الفرز و الاصطفاف و تحديد الأولويّات و التحدّيات و الرّهانات المطروحة على شعوب المنطقة ...
هذا الولاء وقع التّعبير عنه لدى عدد من الأتباع بدرجات متفاوتة من التطرّف و الهستيريا تتجاوز مجرّد الغيرة و القناعة السياسيّة أو العقائديّة أو التّأويل و القراءة إلى حالة لافتة من التّماهي و الولاء المرجعيّ المطلق بكلّ محمولات العبارة و أبعادها و مخاطرها و على الدّاخل الوطني الذي أصبح فيه شركاء خارجيّون متشاكسون يستلحقون عددا من النّخب و النّاشطين و يشترون ذممها و أقلامها و حناجرها .
تمتاز إيران عن العرب بوجود واجهة سياسيّة لها عمق التّاريخ وشرعيّة الثّورة ورصيد المقاومة و كلّ ذلك مكسب تنفق منه للتّغطية على الأخطاء و الانحرافات وتستند عليه للدّعاية و الاستقطاب و الشّحن و التّعبئة ، لكن بيّنت التحركات الأخيرة أنّ هذا المكسب الذي تحوّل إلى سرديّة قابل للنّضوب إذا لم يقع تعزيزه و ترشيده بتصحيح سياسات الدّاخل و الخارج و عقلنة الأطماع و أحلام الهيمنة.
في مقابل ذلك تفتقد المنطقة العربيّة لمشروع عربيّ جامع و قوى سياسيّة و حركات اجتماعيّة فاعلة حاملة لمشروع ناضج منسجم مع تطلعات شعوب المنطقة ... فضلا عن صعوبة إحداث فجوة إصلاح سياسي في الأنظمة القائمة على نمط الفقه السلطاني الوسيط تحتمي من ضرورة الإصلاح بمزيد من الارتهان إلى الخارج و التّطبيع مع العدوّ الصّهيوني وإحكام القبضة على شعوبها .
ليس بالإمكان إيقاف أطماع ساسة إيران و ملاليها بمجرّد المراهنة على انتصار العقلانيّة على العماء السياسي لديهم بل من خلال قيام مشروع عربي مواطني جامع ساهمت إيران في تعطيله و وضع العراقيل في طريق المحفوفة ابتداء بأشواك الاستبداد و الفساد و التخلّف و التعصّب و الإرهاب ... الثقافة و السياسة كما الطبيعة تأبيان الفراغ الذي يملؤه أصحاب الأهواء و الأطماع و الطّموحات و الأحلام ...
فليكن للعرب حلمهم و صحوتهم و نهضتهم، أمّا إيران فما وقع من مشاهد رمزيّة بالغة التّعبير في التّحرّكات الأخيرة هي صفعة في وجه مهندسي المشهد الإيراني و ناقوس خطر إذا لم يؤخذ مأخذ الجدّ سيكون الربيع العربي رغم انكسارته و تعثّراته على مشارف طهران بقوانين السوسيولوجيا و ديناميكيّة التّاريخ و العمران البشري ... و إنّ غدا لناظره لقريب .