الوثائق صحيحة ، والأسئلة مشروعة ، والاختلاف غير المؤدلج صحيّ ، لكن الاستنتاجات التي رشحت عمّا سمّي بالوثائق المغيبة كانت مشوّهة أو غير بيداغوجيّة مثل القول بعدم استقلال تونس، ممّا جعل بعض المتحذلقين يبتدعون تسمية " ناكري الاستقلال " قياسا على ناكري المحرقة négationnistes بقصد الوصم والتّرهيب من التّفكير في تقييم التّاريخ ومراجعة السرديّات الرّسميّة.
ما تكشف عنه الوثائق بشكل إجرائي ودون إسقاط تاريخي anachronisme " قراءة الماضي بوعي الحاضر "هو كيفية تشكّل مسار الاستقلال الوطني الذي كان متدرّجا من الاستقلال الذاتي إلى الاستقلال مع التعاون أو التكافل أو الترابط أو الانضواء على اختلاف ترجمات العبارة الفرنسيّة interdépendance ،
هذا المسار دشّنه بروتوكول 20 مارس 1956 الذي لم يلغ كليا اتفاقيات الاستقلال الدّاخلي جوان 1955 بل تركها للحوار والمفاوضات وفتح الباب على مسار من التصفية التدريجيّة لتركة الاستعمار من خلال ما سمّي لاحقا بالتّونسة التي شملت الجيش والأمن والقضاء وممتلكات المعمرين ومختلف المجالات و المؤسسات " الإدارة البريد النقل التعليم ....."
لذلك يمكن القول لقد كانت سياسة المراحل " خوذ وطالب " التي اعتمدها بورقيبة واعتبرها عنوانا لفلسفته السياسيّه هي الطّابع الذي ميّز مسار الاستقلال وتصفية تركة الاستعمار ، وضبط أشكال التعاون مع المستعمر القديم .
السّؤال الذي يجب طرحه اليوم:
• هل مكّنت هذه السياسة من تصفية كلّ التركة ؟
• أو بشكل آخر ما الذي بقي عالقا من تلك التركة ؟
• أو ما هي التعهّدات التي بقيت ملزمة و نافذة المفعول من اتفاقيات جوان 1955 ؟
وهنا مربط الفرس الذي يحتاج قولا دقيقا من المتخصّصين من خلال دراسة الوثائق والاتفاقيات والعقود اللاحقة لا للإدانة والاستنقاص من الاستقلال الوطني بالعكس بل لمزيد دعم الاستقلال وحمايته باستكماله بنفس السياسة والفلسفة التي ابتدأ بها ،
وهذا الأمر موكول لمسار الثّورة باعتباره امتدادا لمسار الاستقلال الطّويل لتحقيق سيادة القرار الوطني في ظلّ التحدّيات السياسية والاقتصادية والأمنية والغذائية والثقافيّة وإكراهات الأوضاع الخارجيّة.
ليس هناك استقلالات وطنيّة تأتي دفعة واحدة في يوم فارق ، جميعها تتشكّل من خلال مفاوضات واتّفاقات وتعهّدات، لكن هناك استقلالات تنجح تدريجيّا في تصفية تركة الاستعمار ، مقابل أخرى تبطئ في ذلك بل قد تطبّع مع نوع من الاستعمار النّاعم.