لماذا الإرث و ليس الإماء و العبيد و الجلد و قطع الأيدي و تعدّد الزوجات ....
بقطع النظر عن جدل الإرث هذا السؤال المتردّد الذي يحتجّ به دعاة " التسوية " ينطوي في تقديري على عدد من المغالطات و الإخلالات المنهجيّة و المعرفيّة :
(1) الشعوب تُحكَم بما ترتضيه من قوانين أو بما يُفرَض عليها قسرا و قهرا
في الحالة الأولى قد يكون الرضى من خلال القبول الطوعي الجماعي لما أقرّه أهل القانون و التّشريع أو أهل السياسة و تزكيتة تزكية معلنة أو سكوتيّة ، أو من خلال حوار مجتمعي يفضي إلى إقرار ما يعبّر عن الضٰمير العامّ ، و تثبيته في التشريعات المعتمدة كنتيجة لضرب من الإجماع و الاتفاق ، و هو اتّفاق يتأثّر باعتبارات متعدّدة يتعلّق بعضها بتطوّر المعرفة أو الوعي أو الواقع ،
(2) دارسوا مدوّنة التشريعات الإسلاميّة و الدراسات الحديثة و المعاصرة التي تناولتها يلاحظ تطوّر النظر لعديد المسائل خاصّة المتعلّقة بالحدود و العقوبات المغلظة و التشريعات سواء على مستوى التّأويل أو التنزيل ، بما يسّر تطوّر النّظر لها بما لا بتناقض مع روح النصّ و مقاصده و ساعد على تقبّل ما اقتضاه الواقع من حاجات جديدة تنسجم مع ضميرهم العام ، لذلك لم تجد عدد من المجتمعات غضاضة في تغيير بعض من أنماط حياتها وفق تأويلات تشريعيّة جديدة.
(3) في علم أصول الفقه ومن خلال معايير مراتب الأدلّة من حيث البيان تعتبر الأرقام و الأعداد و الألقاب " أب أمّ أخ أخت ابن بنت زوج زوجة ... " من أعلى النصوص تعيينا للمعنى و تعبيرا عن الدّلالة القطعيّة لذلك تضيق مداخل الاجتهاد فيها سواء من حيث التّأويل أو التنزيل على خلاف غيرها من المسائل القابلة لأقدار من الاجتهاد قد تصل إلى التعطيل " حدّ السّرقة " و الإلغاء بالكليّة " العبوديّة " .
(4) اقتضى حجم تطوّر الواقع في الزّمن الرّاهن إلى تغيير كلّي أو جزئي لعديد أنماط السلوك و التّشريع بل إلى استحداث أنظمة و مؤسسات جديدة خاصّة في ظلّ الفراغات التشريعيّة و عدم مواكبة الفقه القديم للنسق المتطوّر و السّريع للواقع ، هي معطيات تتعلّق بقوانين السوسيولوجيا و حراكها الدّاخلي.
(5) ثقل تأثير الغالب صاحب الحضارة الصّاعدة على المجتمعات المغلوبة ممّا أربك المنظومات التشريعيّة القديمة و ساهم في خلخلتها و دفعها إما للتوفيق و التأصيل أو التجديد الجزئي أو الشّامل .
كلّ هذه المعطيات تفسّر لماذا ترضي المجتمعات تغييرا في نمط تفكيرها و عيشها و انتظامها و تشريعاتها في مسألة دون أخرى، لذلك لم يناهض التّونسيّون إلغاء الرقّ فزكّاه وجهاء البلاد و علماؤها و عموم شعبها، و لم يحتجّوا على إلغاء العقوبات المغلّظة التي كانت سائدة بينما لا يزال ضميرهم غير مهيّأ لإلغاء عقوبة الإعدام ، و لم ينتفضوا لإلغاء تعدّد الزوجات لأنّ للمسألة سابقة في التّاريخ " الصّداق القيروانيّ " كما أنّ نسبة التعدّد في البلاد لم تكن تتجاوز الواحد بالمائة فكان المجتمع مهيّأ للإلغاء ، و قبلوا بخروج النساء من البيوت و اختلاطهنّ بالرّجال ….
تطوّر التشريعات يجب أن يعبّر عن حاجة جماعيّة حقيقيّة وموضوعيّة وواقعيّة لذلك ، يعبّر عنها أهل الرّأي و يجسّدها أهل السياسة و القانون ، التشريعات التي لا تكون محلّ رضى جماعيّ بل و تُواجَهُ بمناهضة عامّة لا تعبّر عن حاجة مجتمعيّة ملحّة ، يمكن فرضها بقوّة الدّولة الاستبداديّة القهريّة أو الدّولة الرّاعية التي تؤمن بأسبقية القانون على وعي المجتمع و قد يؤدّي ذلك إلى إرباك المجتمع و جعله في وضع تمزّق و ازدواج معايير أو تطوّر قسري فوقيّ لا يراعي نسق تطوّره.
عندما يكون هناك انقسام مجتمعي حقيقي في مسألة من المسائل إمّا أن تحسم الأمور بالمغالبة أو الحوار أو الاستفتاء كشكل من أشكال الحسم في المنظومة الدّيمقراطيّة ،
جدل الإرث لا يعكس في تقديري انقساما مجتمعيا و لم ينطلق ابتداءً من خلال حوار مجتمعيّ ، بل كان رغبة فجائيّة عبّر عنها رأس السلطة بتزيين من محيطه لغايات يتداخل فيها السياسي و الدعائي و الذّاتي و الضغط الخارجي ، لذلك لن تتحقّق فيها نتائج نوعيّة تكون محلّ رضى مجتمعيّ و ستعتبر لو فرضت في إطار التوازنات المختلّة استهدافا لهويّة المجتمع و استقواءً عليه بالسلطة من طرف نخبة مقطوعة عن الوعي الشعبي تعوّدت على تمرير رؤاها من خلال الاستنصار بالدّولة ، و هذا كان يسيرا في مرحلة ما قبل الثورة قبل أن تتحرّر الإرادة العامّة و يصبح لها واجهات متعدّدة للتعبير و التعبئة في هذا الاتّجاه أو ذاك ،
مختصر القول إمّا أنّ مسالة الإرث بدون وجاهة معرفية و لا تعبّر عن حاجة واقعيّة حقيقيّة أو لم تطرح بالشكل يعبر عن ذلك أو طرحها لا يزال مبكّرا أو هو مسألة زائفة من الاساس و ليست سوى جزءً من استراتيجيا انتخابية.