كنت في بيروت منذ أسبوعين في إطار ورشات نقاش نظمتها الإسكوا حول الوضع في شمال شرق سوريا، في اليوم الأخير نزلت إلى وسط بيروت لأواكب ما سمّي بثورة لبنان، الانطباع الذي حصل لديّ أنّ الأمر أكبر من مجرّد انتفاضة أو حركة احتجاجيّة بل يبدو الأمر أعمق وأكثر تطوّرا،
كانت ساحة رياض الصّلح أشبه بمعسكر خيام تمثّل كلّ الفئات والجهات والمنظمات المدنيّة على شاكلة اعتصام القصبة ولكن بخصوصيّة لافتة هي حلقات النّقاش والحوار داخل الخيام وخارجها تحت عنوان موحّد يخترق الطّوائف والمذاهب والأحزاب هو العنوان الاجتماعي الاقتصادي ومقاومة الفساد وتحرير نظام الحكم من الفاسدين المحتمين بالمحاصصة الطّائفيّة،
المشهد كان لافتا: تنوّع طائفي ومذهبي ووحدة المطالب، لم يكن هذا المشهد متوقّعا في أجواء التجييش الطّائفي وتعميق التسابق على المحاصصة التي تحفظ للطوائف كياناتها على حساب كرامة عيش أبناء الطّوائف وقوتهم اليومي والعشوائيّات وبؤر التّهميش والبؤس المنتشرة على امتداد مدن لبنان،
مشهد في مستوى عال من الرقيّ الحضاري والفكري لا يخلو من مظاهر الفنون " أناشيد، موسيقى، شعر، جرافيتي، مجسّمات، صناعات يدويّة ... "
لكن لم ينغّص على هذا المشهد الثّوري الحضاري المتقدّم إلّا الغزوات التي يقوم بها من حين لآخر أفراد محسوبون على التيّار المضادّ للثّورة وهم للأسف ممّن يفترض أنّهم مناصرون للمقاومة والممانعة ونصرة المستضعفين، أمام تدخَل محتشم من قوات الأمن.
كنت شاهد عيان على اقتحام خيمة كان النّقاش فيها على مستوى عال من الحوار العقلانيّ الهادئ بدعوى أنّ إحدى المداخلات يشتمّ منها نفس تطبيعيّ، فوقع التهجّم على الحاضرين ودفعهم وإخلاء الخيمة لتحطّم وتحرق، لكن إبداع المعتصمين جعل من حطام الخيمة مادّة لمجسّم فنّي يجسّد طائر الفينيق الذي ينتفض من الرّماد،
لا خوف على لبنان من أجواء التحرّر من تطييف السياسة والحياة العامّة فالطّائفيّة السياسيّة التي فرضتها الحرب الأهليّة واستغلها بارونات الفساد وأثرياء الحروب والأزمات هي سبب أزمة لبنان التي تحول دون تحوّله إلى دولة مدنيّة تعبّر عن إرادة مواطنيها.