كلّنا قرأ في طفولته تلك القصّة التي وجدت فيها بجعة نفسها بين سرب من الإوزّ حيث تعرّضت للتمييز و الإقصاء و السخرية بسبب اختلاف اللون و الشكل ، لا أدري لماذا تذكّرت تلك القصّة و أنا أشاهد حلقة يوم الجمعة الأخيرة من برنامج 24/7 حيث وقعت مشادّة حادّة بين الكرونيكور شكيب درويش و أحد زملائه في الحصّة ،
في الواقع هذا الكرونيكور المثير للجدل و الموصوم في نفس الوقت بمشاركته في تجربة الترويكا من خلال عمله في وزارة حقوق الإنسان و كذلك من خلال مرجعيته التي يقع فيها الخلط بين السياسي و الثقافي فهو النهضويّ قسرا رغم أنفه و إن لم يكن منتميا لهذا الحزب ،
هذا الكرونيكور الذي كثيرا ما يتعرّض للهرسلة أثناء مشاركاته التلفزيّة سواء من طرف الضيوف أو من طرف زملائه في البرنامج و كلّما حاول أن يعبّر عن مواقف و أفكار تنقض الأحكام المسبقة و الجاهزة حوله إلا و ازدادت حدّة ردود الأفعال تجاهه لمحاصرته و إرباكه و إظهاره في شكل المتناقض و المضطرب و مزدوج الخطاب ...
هذا الكرونيكور يعيب عليه عدد ممن يفترض أنّهم يشتركون معه في المرجعية الثقافية حضوره في البرنامج إما بسبب قبوله السياقات المتّسمة بالميوعة في نظرهم من خلال بعض الاستضافات الفنية أو بسبب الأجواء المشحونة التي وصلت حدّ استهدافه و إهانته بشكل مباشر، و من هؤلاء من شنّع عليه في ذلك و دعاه لإيقاف تجربته حفظا لكرامته و ماء وجهه ،
كما يعيب عليه كذلك كثير من منتقديه وخصومه الآراء التي يعبّر عنها مهما كان اتّجاهها و مضمونها، و من الضيوف من يهاجمه بشكل مجاني منذ بداية الحصّة ، بل هناك من يضنّ عليه المواقف الهادئة و المتوازنة التي تصدر عنه أحيانا و يغتاظون من بعض تخريجاته الرشيقة خاصّة في المساحات الحرّة للبرنامج التي لا تخضع للنقد و الجدل حسب قواعد البرنامج coup de cœur /de gueule و مع ذلك لا تسلم من تكسير القاعدة بنقدها و التشكيك في مضامينها ،
هذا المحامي الذي يعرف المقرّبون منه ما يتميّز به من صفات الحياء و الخجل و الأدب و اللطف و الظّرف، و بعد أن انفتح على الإعلام المرئي في مرحلة حسّاسة تُعرف بإعلام الأجندات و التنافس المحموم على التسويق و الاستشهار، و بعد فترة متقدّمة من هذه التّجربة التي يمكن أن يقال فيها الكثير عن أدائه ، أصبح لدينا انطباع خاصّ و طريف و إشكالي في نفس الوقت عن حضوره في هذه القناة :
فحضوره يحقّق في نفس الوقت هدف تكريس صورة التنوّع و التعدّد و إن على مستوى الشّكل، و لكنّه يحقّق كذلك هدفا آخر من خلال الحرص على ترذيله و إرباكه و مصادمته و التعريض به همزا و لمزا في كلّ حصّة تقريبا، أحيانا بسبب مواقفه الخلافيّة و عدم خضوعه للنّمط المراد تكريسه و أحيانا أخرى بشكل مجاني ، فأصبح حضوره بمثابة " الشرّ " الذي لا بدّ منه ،
يُرَادُ له أن يكون حاضرا و لكن ضمن برواز نمطيّ يرضي انتظارات أصحاب الأفكار المسبقة و مكبوتاتتهم النفسيّة و أحكامهم الجاهزة و السقف الذي ضبطه خطّ التحرير ، يجب أن يكون حاضرا ليلبّي الحاجة الماسّة لوضعه في الزّاوية ليس هو في شخصه و لكن من فرض عليه قسرا و إسقاطا سياق الحصّة أن يكون ممثلا لهم و لو بشكل رمزيّ.
صبر هذا الكرونيكور على كلّ الإهانات و عمليات المحاصرة و الاستهداف الموجعة و المهينة أحيانا و اجتهد في إبراز مواكبته للشّأن السياسي و الثقافي و التعبير عن قناعاته بأشكال تتفاوت من حيث الحدّة و الاتّزان رغم كلّ الفخاخ و المطبّات ، و ربّما هذا ما قوّى وتيرة استهدافه في الحلقة الأخيرة بشكل فجّ عنيف مباشر و مجاني غير مبرّر و اتّهامه بالدعوة للدولة الدينيّة و الشريعة الإسلاميّة وطرد اليهود من البلاد !!! ، هكذا بدون مقدّمات و سياقات مبرّرة في ما يشبه عمليّة التّدمير الرمزي الشّامل !!!
هو بكلّ بساطة تلك البطّة السوداء التي ينفر منها القطيع النمطي للإوزّ مهما حاولت أن تتلطّف و تتودّد و تتعقّل، المتّهمة باختلافها و الموصومة به مهما كان معدنها وجوهرها و شفافيّة روحها ،
هي قصّة الصغار التي تعلّم أطفالنا التعايش رغم الاختلاف ، و هي قصّة الكبار كذلك التي تكشف المزاجات الثقافيّة المتشنّجة و الاصطفافيّة الحادّة التي تحتاج علاجات بسيكوثقافية عميقة يحقّقها التواصل الإنساني مهما كانت عوائقه ،
نحتاج ثقافة الدراويش أحيانا و فلسفتهم البسيطة و العميقة في آن واحد لتجاوز الإساءة و مواصلة الحياة بقلوب نقيّة خالية من الضّغينة يتغلّب فيها الأصفياء.