يحتاج الرئيس الى الشعبية بنسبة 100% كي يصل الى السلطة، ثم يحتاج الى تلك الشعبية بنسب أقل بكثير كي يبقى في السلطة، فالوصول إلى السلطة تصنعه السواعد والبقاء في السلطة تصنعه التوازنات، وفي كل الأحوال تبقى الشعبية هي الرصيد الذهبي لكل الكيانات والأشخاص الذين يتحركون نحو منصات الحكم.
تلك هي الشعبية في عناوين مقتضبة، لكن ماذا عن الشعباوية؟ لنعترف اولا انها عبارة مشتقة تم اعدادها بأشكال ماكرة وتم استعمالها بأشكال أكثر مكرا، رغم ذلك لا ضير من استدعاء المصطلح لتنقيته من النوايا السيئة المضرة بالصحة السياسية، دعونا نركز على بعض المظاهر التي تبدو في قشرتها الخارجية شعبية لطيفة تبعث الدفء في أوصال المجتمع المحروم، المجتمع العطشان لحنان الدولة، ذلك الذي يرغب في الالتصاق بالدولة، يرغب في محاكاتها، يريدها ان تترجل ،أن تمشي في طرقاته ان يغازلها وربما يلثمها و ويعانقها..
جميل ان تقترب الدولة ممثلة في رموزها من المجتمع، لكن ذلك لا يمنع من احترام الخصوصيات التقنية، جميل أن نلامس الدولة ، ان نصبح بعضها وتصبح بعضنا، لكن علينا ان ندرك بعض اساسيات الدولة ان نتعرف الى ميكانيزماتها وطريقة عملها وخصوصياتها، هناك سنشرع في ترجمة بعض المطالب بطريقة مهذبة، حينها لن نطالب رئيس الجمهورية بالإفلات من حرسه والتوغل في عمق الأحياء الشعبية، ولن نترقبه كل صباح في المقهى المجاور كعادته يشرب القهوة ويدردش مع الرواد والاصدقاء..
ثم لن ننتعش بفكرة الرئيس الذي سيظل في بيته القديم ولا يغير من عاداته الغذائية وتحركاته المعهودة في الفضاءات التقليدية وجلوسه بعد العصر أمام محل العم مبروك يرتشف الشاي ويدردش مع الرفاق، ذلك سيكلف ميزانية اخرى اضافية، دعنا من شرب القهوة في نفس المقهى والأكل من نفس المطعم الشعبي وما ينتج عن ذلك وما يتطلبه ذلك، لنتعامل فقط مع مسألة السكن كنموذج يمكن القياس عليه.
يعتقد البعض ان بقاء الرئيس في بيته وعدم انتقاله الى القصر سيوفر على الدولة نصيبا من المال تحتاجه في محنتها الاقتصادية، من يعتقد ذلك كمن يقول بأن عدم ذهاب الوزير الى مكتبه واستعمال مكتب البيت سيوفر للوزارة بعض المال! بينما الوزارة مؤسسة قائمة تعمل به او بغيره، كذلك مؤسسة الرئاسة هي واحدة من أضخم المؤسسات السيادية قدرت ميزانيتها سنة 2019 بما يناهز 124 مليار "123 مليونا و989 ألف"، هذه الميزانية لن تتقلص إذا ظل الرئيس وزوجته خارج القصر بل بالعكس، سندخل في اجراءات اخرى، ابسطها واقلها ان جهاز الامن سيكلف فريق الهندسة والمسح بإعداد خطة لتأمين المحيط، يجب ان لا تقل عن 2كم مربع حول بين الرئيس، سيمر البيت بعدة اجراءات اخرى، على مستوى المراقبة الغذائية، الفريق العامل، طريقة الزيارات وتأمينها من الشوائب، ثم ان هناك ميزانية اخرى خاصة بالثغرات والامن الاستباقي، أي قراءة السيناريو قبل وقوعه وتجنب الوصول اليه.
هذا يعني ان بقاء قيس او غيره في بيته، سيدفع مؤسسة الرئاسة الى تشييد مؤسسة رئاسية صغرى حول بيت الرئيس، قبل هذا وبعد هذا، لن يكون القرار بيد قيس او غيره من الرؤساء، لأن تأمين الرئيس لا يعود الى الرئيس نفسه بل يعود الى المؤسسة وهي ادرى بعملها وبطريقة تصريف الأمن حول الرئيس وحول محيط الرئيس.
سيقول بعضهم ان لا خوف على قيس سعيد، محبوب الجماهير، سيتجول بينهم ويأكل معهم وينام قرير العين في احواشهم!! طيب حتى الڨضڨاضي جماهير والفيسبا كانت على ملك الجماهير، والذين يحرضون فرنسا من على منابر العار جماهير والذين يتواجدون منذ يومين في بروكسيل مقر الاتحاد الاوروبي للوشاية بتونس 13 أكتوبر جماهير، حتى أبو لؤلؤة المجوسي جماهير وحتى عبد الرحمن بن ملجم جماهير، حتى الشقي غافريلو برانسيب جماهير وهو الذي تسبب في مقتل 16 مليون انسان وأجهز على 4 إمبراطوريات.
نحن في حاجة إلى إعادة إنتاج التواضع، فمفهوم التواضع الشعبي قد لا يتجانس تماما مع مفهوم تواضع الدولة.حتى الديمقراطيات النموذجية في الدول الاسكندينافية، أدخلت تعديلات كبيرة على حركة رجال الدولة في الشارع بعد مأساة "آنا ليند" وزيرة خارجية السويد التي اغتيلت يوم 10 سبتمبر 2003 حين كانت تتسوق في متجر نورديسكا كومبانيات بوسط ستوكهولم، آنا ليند ايضا كانت مثل قيس سعيد، تحب فلسطين وتنتصر الى قضيتها، وهي التي قالت "كيف نستسيغ الاحتجاج على قتل الدب الأبيض في القطب الشمالى لصناعة الفراء، ولا نحرك ساكناً إذا قتلت الدبابات الإسرائيلية أسرة فلسطينية بأكملها" ... رغم انها شعبية وجميلة واصيلة ومثقفة.. قتلوها في الشارع.. في المتجر.. أمام الجماهير التي تحبها وتحبهم..
آنا ليند ايضا كانت تحب فلسطين تماما كقيس سعيد، آنا ليند قتلوها رغم انها كانت محاطة بزعامات أوروبية تقود ديمقراطيات عريقة، آنا ليند ليست كقيس سعيد، قيس تحوطه الضباع المعسكرة ، تلك التي تحتل منابع السلطة العربية، ترى فيه اكبر محرض للشعوب، يغمز إليهم بضرورة إعادة الدبابة إلى غمدها.
اذا هي دعوة الى الوعي بحقيقة الاختصاص والخصوصية، دعوة إلى التوغل في ثقافة الدولة، دعوة الى تنقية مفهوم الشعبية او حتى الشعبوية او أي عبارة مشتقة من كلمة الشعب، علينا ان نسفّه أحلام كل الرصاص الغادر الذي يتربص بثورتنا، الرصاص الخائن وكذا الرصاص الصائل، علينا ان نسد الذرائع ونقطع على خصوم الشعب تعلاتهم ونغلّق في وجوههم مداخل الفتنة، حتى نضطرهم الى الاستقرار أو الانتحار.