قدّم السبت وزير التعليم العالي والبحث العلمي سليم خلبوس استقالته بعد أن تمّ اختياره للقيام على الإدارة التنفيذيّة للوكالة الجامعيّة للفرنكوفونيّة. قبل التطرّق إلى المنصب الجديد وتكاليفه وفاتورته الوطنيّة لابد من وقفة مع هذا الاستهتار بمؤسّسات الدولة، خاصّة لما تعلّق الأمر بمؤسّسة تعليميّة دقيقة كوزارة التعليم العالي التي أصبحت وفق سلوك الوزير تفصيلة جانبيّة تُركن وتُهجر حين تُقايض بغيرها من المناصب، وهي بادرة مخجلة تشير إلى هوان المؤسّسة التونسيّة المفصليّة أمام مؤسّسة فرنكفونيّة تلاحقها سلسلة من المآخذ.
رغم الإخلاء الهجين للمنصب التونسي مقابل المنصب الفرنكفوني إلا أنّ المسألة أو المعضلة لا تكمن في هذا الإخلاء المهين، بل في ملابسات المنصب الذي وصل إليه خلبوس! لماذا ومقابل ماذا؟ إلى جانب أسئلة أخرى ستقودنا إلى عمليّة تلاعب قد ترتقي إلى مستوى التلاعب والمسّ بمصالح تونس العليا.
في طريقه إلى الفوز بمنصب المدير التنفيذي للوكالة الجامعيّة للفرنكوفونيّة، كان على خلبوس أن يقدّم خدمات كبيرة لقمرة القيادة الفرنكفونيّة في باريس خدمات تحتاجها فرنسا التي باتت تشعر بالقلق من ترهّل مصالحها في تونس وأفريقيا وتراجع نفوذها أمام الأداء الألماني المتميّز الذي يعتمد في علاقاته الأفريقيّة على تبادل المنافع بين الدولة والدولة، فيما تعتمد فرنسا على تبادل المنافع بين دولتها ومراكز النفوذ والمصالح الخاصّة والفئويّة في البلدان الأخرى.
بدأ نجم سليم في الصعود لدى الفرنسيّين حين قرّرت باريس الرهان عليه في تكسير واحدة من أخطر المشاريع الاستراتيجيّة الألمانيّة في تونس وأفريقيا، كان ذلك حين نقل اللوبي الفرنسي في تونس مشروع الجامعة الألمانيّة التونسيّة إلى باريس وقدّم المعطيات والأرقام التي تؤكّد أنّ ألمانيا وبهكذا خطوة لا ترغب في المشاركة من أجل المشاركة بل تهدف إلى تأثيث شراكة استراتيجيّة عميقة مع تونس ليس لذاتها فحسب وإنّما كبوابة نحو القارّة السمراء.
الجامعة الألمانيّة التونسيّة، فكرة ولدت أواخر 2013 بدايات 2014، بدفع خاصّ من المستشارة أنجيلا ميركل وتتويجا للتقارب الكبير بين البلدين وترجمة صريحة لدعم ألمانيا القوي للانتقال الديمقراطي في تونس والذي كان يزعج بشكل كبير الجانب الفرنسي باعتبار فرنسا ترغب في احتكار المجال التربوي الثقافي في بلادنا لتثبيت الفرنكفونيّة المترنّحة.
وفق الدراسة التي أعدتها الجهات الألمانيّة كان من المقرّر أن تستقبل الجامعة الألمانيّة أكثر من 3000 طالب من تونس وأفريقيا يرتادون جامعة سيتم تشييدها وتهيئتها بتكلفة تناهز 400 مليون دينار، تتكفّل تونس بالأرض والبناء على أن تتكفّل ألمانيا بجميع المتطلّبات الأخرى كالتأثيث والإشراف والخبرات وتسهيل تدفّق الطلبة من وإلى ألمانيا للاستفادة المباشرة عبر التربّصات والدورات وغيرها. تقرّر أيضا أن يتركز المشروع في مرناق على أرض مساحتها 35 هكتار. يهدف المشروع الألماني إلى جني الكثير من الأرباح، لعلّ أبرزها العمل على انفتاح الجامعات تجاه المؤسّسات الاقتصاديّة والصّناعيّة، ضمن خطّة أسهبت فيها الورقة الألمانيّة.
عندما تطوّرت فكرة الجامعة وتحوّلت من مقترحات إلى أمر واقع يترقّب التجسيد على الأرض، حينها بدأ الجانب الألماني يشعر بالقلق وتبيّن أنّ الجانب التونسي يماطل ويعطّل ويكتفي بتقديم تبريرات واهية، ثم تحوّل إلى إغراق الشريك الألماني بالاقتراحات المكبّلة وانحرف عن الفكرة الأولى وجنح إلى تلغيمها بوضع بنود تعجيزيّة!!!!! في الأثناء كان الجانب الفرنسي يجهّز البديل، واختار أن يكون ذلك البديل نسخة مصغّرة من المشروع الألماني الضخم، طبعا بعد أن وصل إلى باريس مشروع برلين وأرقامه وتوجّهاته.
وبما أنّ المشروع الألماني استهدف تونس ومن ثمّ الارتكاز عليها كمنصّة نحو أفريقيا، جاء المشروع الفرنسي تحت اسم" الجامعة الفرنسيّة التونسيّة لإفريقيا والمتوسط"، تقريبا عمليّة استنساخ حرفيّة فقط اختلفت الميزانيّات، ولا غرابة في ذلك لأنّ الفروقات شاسعة بين المشاريع الاستراتيجيّة العملاقة وبدائل التعطيل، مؤسّسة جاءت بفكرة البناء ومؤسّسة جاءت بفكرة قطع الطريق.
في الأخير نجح سليم خلبوس في مهمّته، وكرّمته فرنسا على ذلك بمنصب فرنكفوني رفيع بطعم وضيع، خلبوس الذي فشل في تسيير الجامعات العموميّة التي عانت طوال مرحلته من الصراعات والمشاكل والإهمال، مقابل ذلك تطوّرت علاقته بالجامعات الخاصّة التي فتح لها النوافذ ومدّ لها الجسور مع فرنسا، كان خلبوس بمثابة الوزير المنتدب من القطاع الخاصّ لترقية الجامعات الخاصّة وذبح العموميّة منها.
مثلما ملّ الاستثمار وغادر بلادنا بداية من سنة 2011 إلى المغرب وبعض الدّول الأفريقيّة نتيجة المؤامرات والعرّبدة، ستملّ ألمانيا من طرق بابنا وتغادر نحو شراكة أخرى، لأنّ اللوبي الفرنكفوني يبدو أقوى من الدولة ومن جميع مؤسّسات المجتمع المدني! قريبا ستملّ ألمانيا وتعطينا بظهرها!!! ألمانيا التي ساعدت تونس مع الاتحاد الأوروبي و انخرطت في مساعدة الانتقال الديمقراطي، ألمانيا التي استقبلت كل رؤساء تونس ورؤساء حكوماتها منذ الثورة، ألمانيا التي تعتبر ثالث حريف تجاري لبلادنا وهي التي تغطي 5% من الاستثمار الأجنبي في تونس، ولها 268 مؤسّسة تنشط في البلاد توفّر أكثر من 70 ألف موطن شغل دون اعتبار قطاع الطاقة، وهي من الدول الأوروبيّة القليلة التي وافقت على إعادة جدولة ديون تونس، ألمانيا التي تصنّف رقم واحد في بلادنا من حيث نوعيّة المشاريع ونجاعتها، ألمانيا التي تتصدّر مؤسّساتها الجودة والأداء… ألمانيا التي عملت منظومة الثورة على الاستفادة من مقدراتها وخبراتها، قرّرت اللوبيّات الفرنكفونيّة غير ذلك ونجحت في ما قرّرت.
لعلّ أخطر ما في الأمر أنّ فرنسا عبر خلبوس وغيره من الخلابيس وعبر اللوبي الفرنكفوني النّافذ، لا تعمل فقط على ضمان وتأمين موقعها في تونس، بل تعمل على احتكار بلادنا وتعطيل أيّ علاقات استراتيجيّة مثمرة مع غيرها! ستحرمنا فرنسا من البحث عن العمق البديل والحلّ البديل والشريك البديل! ثم أن كان قدرنا ان تحتكرنا فرنسا! لماذا لا تساعدنا مقابل احتكارنا، لماذا لا يتحرّك خلبوس وبقيّة اللوبي لإقناع فرنسا ومن ثم أوروبا بشطب ديون تونس، ماذا يساوي الدين التونسي في أوروبا أمام ثاني أكبر امبراطوريّة ماليّة في العالم، لماذا لا يحمل خلبوس ملفّ الدين التونسي ويعرضه على باريس لشطبه مثلما عرض عليها ملف الجامعة الألمانيّة لوأدها؟
لكن قبل كلّ ذلك، لماذا لا يخبر خلبوس فرنسا أنّ 30 مليون يورو "تكلفة الجامعة الفرنسيّة" قيمة محتشمة مخجلة عليها أن تضاعفها لمرّات وترتقي بها لتكون في حجم اللعبة، لماذا لا يخبرها أنّ استبدال مشروع الــ 400 مليون بمشروع 30 مليون في حدّ ذاته خيانة موصوفة.