بشكل قد يكون فأجأ الجميع حسم المجلس الأعلى للقضاء موقفه من تكليف رئيس الجمهورية وزيرة العدل بإعداد مرسوم يتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء . رفض المرسوم جملة وتفصيلا وفي بيان مقتضب، ولكن حاسم وقاطع وجاء طلب الرئيس من وزيرة العدل بإعداد المرسوم ضمن ما يعتبره الرئيس إلى الآن تدابير استثنائية اتخذها بموجب الفصل 80 من الدستور.
هجوم الرئيس الكاسح أمام تقهقر الجميع<
لا فائدة من التوسع في بيان هذه المغالطة فلا شك أن القرارات المتخذة من رئيس الجمهورية لا صلة لها بالتدابير الاستثنائية وإنما هي خروج صريح لا غبار عليه عن مقتضيات الدستور . فلقد قلنا مرارا وتكرارا أن فصل التدابير الاستثنائية في التجربة الدستورية التونسية وفي غيرها من التجارب قد صاحبته قيود تمنع الرئيس عند استعماله من الانحراف بالسلطة فهذا الفصل ضروري عند الخطر الداهم وهو في اكثر الدساتير الخطر الخارجي او الداخلي مع تهديد نظام الدولة نفسها، ولكنه اخطر فصل في الدستور على سلامة عمل مؤسسات الدولة لاسيّما في غياب المحكمة الدستورية . انه مثل الدواء تماما لا بد منه في أوقات المرض رغم مراراته وتأثيراته الجانبية، ولكن تناوله يجب أن يكون بمقدار يقع تحديده بدقة لان بعض الأدوية النافعة والمنقذة من الخطر قد توصل الى الموت فتصبح هي نفسها قاتلة إذا ما أخطأنا في مقاديرها وطريقة استعمالها.
غير أن الرئيس أساء استعمال الفصل حين خالفه لفظا وروحا وأباح لنفسه ما منعه الفصل منه فحل البرلمان أو جمده في ما يشبه الحل ( لا فائدة من الحديث هنا عن تنكيله بالنواب فهو موضوع يحتاج إلى حديث خاص ) وحل الحكومة وجعل من نفسه الحاكم الأوحد.
ولأنه وجد من يشرع لسلوكه الانفرادي فقد ذهب ابعد حين اصدر الأمر 117 فالغي بذلك العمل بالدستور رغم انه يزعم انه لا يزال متقيدا به.
هذا الزعم لا معنى له في ظل التنظيم المؤقت للسلط التي تضمنه الأمر 117 . سمح الرئيس لنفسه أن يكسر وحده النص وان يمزقه قطعا بلا أي تفويض من المجلس . فاحتفظ منه للدعاية الخارجية والاستهلاك المحلي ببابين فقط الأول المتعلق بالمبادئ العامة و الثاني المتعلق بالحقوق والحريات كما سمح لنفسه بإعادة تشكيل النظام السياسي .
هكذا أصبح بواسطة سلطة التشريع التي أعطاها لنفسه أي بواسطة المراسيم وفي وجود مجلس نواب لا يزال قانونيا قائما ولم يحل (في حالة حلّ مجلس نواب الشعب، يمكن لرئيس الجمهوريّة إصدار مراسيم بالتوافق مع رئيس الحكومة تعرض على مصادقة المجلس في الدّورة العادية التّالية وهي الحالة الوحيد التي تمكن رئيس الجمهورية من صلاحية إصدار مراسيم ) صار قيس سعيد صاحب الأمر كله فهو الحاكم بأمره في يده سلطة التنفيذ والتشريع.
لم يجد الرئيس أية مقاومة حقيقة تقف ضد هذا الانحراف الخطير بالسلطة وهذا النزوع المتعاظم نحو نظام الفرد الواحد ..ظل الاتحاد صامتا وإذا ما تكلم حاول مسك العصا من الوسط في ما يشبه الامتناع عن الموقف . وظل الأمين العام الطبوبي يهدد بأنه سوف يتكلم غير أن الكلام يستعصي عليه فيوهمنا بأنه عاقل ورصين في موقف يحتاج إلى الرصانة والعقل وهما اللذان يغيبان عنه في مواقف أخرى.
كان الطبوبي بلا شك محكوما بحساباته السياسية المتراوحة بين هيمنة العناصر اليسارية علي الاتحاد والتي تناصر قيس سعيد كرها في النهضة، ولكن ربما يكون محكوما أيضا بالخوف من أية مواجهة مع قيس سعيد وهو الذي لا يخلو أمره من فساد ليس اقله التواطؤ مع السلطة لتنفيذ انقلاب على قانونه . أما الأحزاب السياسية فصوتها ضعيف أو مرتبك مثل التيار التي تحول موقفه من 25 جويلية الى ما يشبه المهزلة في تناقضه.
بدا لقيس سعيد إن البلاد فاقدة لأية مقاومة للانحراف بالسلطة الذي يعاينه الجميع . ولذلك كان يندفع في كل مرة نحو غاية يبدو انه مخطط لها منذ البداية وهو الاستيلاء على كل مؤسسات الدولة .
الرئيس يستهدف السلطة القضائية أيضا
وصل الأمر بعد المجلس النيابي والحكومة إلى القضاء كسلطة وكان ذلك أمرا منتظرا منذ ليلة 25 جويلية حين تحدث عن رئاسته للنيابة العمومية .
والقضاء في هياكله لا يوجد منه اليوم غير المجلس الأعلى للقضاء . بعد أن ألغى الرئيس بجرة قلم الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع وبعد أن ساهم مساهمة فعالة في وأد مشروع تنقيح قانون المحكمة الدستورية من اجل التسريع بإرسائها.
بدأ قيس سعيد الإعداد لخطته باستهداف القضاة والتأكيد على الفساد القضائي.. جعل من القضاة خبزه اليومي. كان بلا شك يستعيد نفس تجربته السابقة مع المجلس النيابي بشيطنته في نظر عامة الناس المستعدين بطبعهم لابتلاع الطعم . يحمّله كل الخطايا حين يحول صورته شيطانا رجيما في أعين السذج .ثم يجهز عليه وهو مطمئن بأنه لا مقاومة ولا اعتراض.
هكذا بعد أن حل المجلس وكون حكومة بلا سلطة ولا قرار ( أحسن صورة للحكومة هي اجتماعات مجلس الوزراء حيث يبدو الرئيس في المحور يتكلم وحده أما الوزراء فخافضوا الرؤوس يكتبون او يتعمدون التظاهر بالكتابة بالضبط كما يفعل التلاميذ حتى لا يتهمهم الأستاذ بعدم الاهتمام بما يقوله ونقله أو ليتجنبوا النظر إليه ) جاء الدور على المجلس القضائي وجاء الاقتراح إلى وزيرة العدل بإعداد مرسوم للمجلس الأعلى للقضاء في مخالفة صريحة للدستور. فالمجلس في تركيبته يعود أمره كله الى الباب الخامس من الدستور وهو ما يعني ان المساس بهذه التركيبة أساسا ( ثلثان من القضاة المباشرين وثلث من القضاة المتقاعدين كما اشار الرئيس نفسه ) هو مساس بنص الدستور وتعديل له بغير ما يقتضيه هذا التعديل من إجراءات يوضحها الدستور نفسه .
كان موقف هياكل القضاة من جمعية ونقابة باهتا مترددا .جري الحديث عن مبدأ التشارك في أية عملية لإصلاح المجلس ( في ما يشبه القول أننا لسنا ضد الانقلاب، ولكن تعال ننفذه معا ) . كان القبول بالمشاركة قبولا في الواقع بدولة اللاشرعية واللاقانون . وهو ما يدل مرة أخرى على غياب روح المقاومة لدى القضاة و سهولة إخضاعهم من قبل الحكم .فهم في كثير من الأحيان يبدون في عيون كثير من التونسيين مهمومين بأجورهم أكثر من أي هم آخر.
كان موقف المجلس الأعلى للقضاء هو أيضا متذبذبا فقد تكلم رئيس المجلس بما تكلمت به الهياكل التمثيلية فلم ندر على ما وجه التحديد موقفه وان كان من الأرجح انه كان مستعدا بالقبول بتخريب المجلس، ولكن بصيغة تشاركية.
ما الذي دفع المجلس إلى هذا الرفض الحاسم لمرسوم الرئيس.؟
من الصعب جدا في أغلب الأحيان تبين الدوافع التي تفسر بعض المواقف بشكل فوري خاصة عندما تفاجئنا هذه المواقف و تأتي مخالفة للمجرى العام للأحداث والسياقات غير أننا سنغامر رغم ذلك باقتراح بداية تفكير في سلوك المجلس ورفضه القطعي لمرسوم الرئيس.
1) من المرجح أن أعضاء المجلس سواء من القضاة أومن غير القضاة جامعيين وخبراء وعدول فهموا أن المرسوم الجديد يعني حل المجلس قبل أشهر من نهاية عهدته (انتخب المجلس لست سنوات من 2016 إلى 2022) وهو ما يعني خروجهم من المجلس في ما يشبه الطرد فلا مبرر لحل المجلس غير الإقرار بفساده وعجزه وتستره على الفاسدين وهي الأمور التي يتهم بها عادة. إن الإقرار بهذا يعني ببساطة إدانة أعضاء المجلس لأنفسهم في ما يشبه الانتحار الرمزي الجماعي.
2) لا شك أن المجلس يستحضر بوضوح تجربة الإعفاءات في 2012 ومن غير المستبعد انه كان يخشى أن يلحق ببعض أعضائه نفس المصير إذا لم تتوقف عملية استهداف المجلس في تركيبته وأشخاصه وهو الأمر الذي يبرر تأكيده في بيانه على ان المساءلة لا تكون خارج الإطار والضمانات القانونية وهو ما يعني بالنتيجة رفض محنة الإعفاء خارج ضمانات المساءلة العادلة والسلطة التأديبية للمجالس القضائية.
3) لقد برزت من داخل الجسم القضائي بعض الأصوات التي نبهت إلى خطورة قبول المجلس والهياكل التمثيلية والقضاة جميعا بما يدبره الرئيس. و قاد هذه الحملة قضاة من محكمة التعقيب قريبين من جمعية القضاة مثل القاضي احمد الرحموني والقاضية روضة القرافي وكلاهما رئيسان شرفيان لجمعية القضاة.
4) من شبه الأكيد أن أعضاء المجلس من غير القضاة قد لعبوا دورا في هذا الموقف فهم بعيدون نسبيا عن المخاوف التي تحرك القضاة عادة إما لشبهات فساد تلاحقهم أو لعادة التبعية للسلطة التنفيذية التي ترسّخت في عقول الكثير منهم. كان موقف الأستاذة الجامعية المختصة في القانون العام بسمة السلامي واضحا في توصيفها للمرسوم باعتباره يخالف مخالفة صريحة مقتضيات الباب الخامس من الدستور المخصص للسلطة القضائية .
5) نميل إلى الاعتقاد أن المجلس استفاد أيضا من تصاعد المعارضة لتدابير قيس سعيد في ظل مخاوف الجميع من انهيار الاقتصاد وارتداد الموقف كله على الرئيس وعلى مناصريه الذين بدأ عددهم يتقلص.
الآن من الواضح أننا نشهد اندلاع معركة بين القضاة ممثلين في مجلسهم وقيس سعيد .
نعيش أول مواجهاتها، ولكن ما الذي تحمله لنا في قادم الأيام في بلاد أضاعت البوصلة وصار الجميع فيها ضد الجميع حقدا وكراهية وتشفيا ..فلا شمال تعرف ولا وجهة واضحة تقصد في طريق لا ندري الى حيث تحملنا متاهاته ؟