دأبت البلاد منذ الاستقلال وخاصة منذ صدور القانون الأساسي للقضاء والقضاة سنة 1967 على إحداث حركة قضائية كل سنة . وبموجب هذه الحركة يباشر القضاة الجدد وظيفتهم القضائية بعد قرار تعيينهم من قبل المجلس الأعلى للقضاء وصدور أمر رئاسي يقع بموجبه تسميتهم رسميا في مناصبهم. وبموجب هذه الحركة ايضا ينقل القضاة المباشرون الى المراكز التي يطلبونها وتسد الشغورات في المناصب التي نقل أصحابها كما يعين قضاة في المراكز المحدثة . يقع كل ذلك عموما قبل شهر من العودة القضائية التي تكون رسميا يوم 16 سبتمبر من كل سنة .
يبدو أن هذه السنة ( إذا لم تصدر الحركة عشية اليوم الخميس ) ستعرف سابقة في تاريخ القضاء التونسي إذ أن القضاة سيعودون كلهم إلى مراكزهم القديمة وستبقى 57 خطة كان يشغلهم القضاة المعزولون شاغرة.
ما الذي يحدث اذن ؟
لا يخفى على أحد أن الحركة تعطلت بسبب القرار المرتقب بشأن القضاة السبعة والخمسين المعزولين والذين قررت المحكمة الإدارية توقيف تنفيذ قرار إعفائهم بالأوامر الصادرة في 01 جوان 2022 من قبل رئيس الجمهورية . وما يتسرب اليوم من أخبار شحيحة حول مصير الحركة هذه السنة والتي تنشرها الصحافة يؤكد أن المجلس الأعلى المؤقت للقضاء قد أنهى إعدادها منذ أكثر من عشرة أيام وأرسلها إلى رئيس الجمهورية علما بان المرسوم عدد 11 لسنة 2022 المتعلق بإحداث المجلس الأعلى المؤقت للقضاء ينص على انه يتولى كل مجلس من المجالس الثلاثة العدلية والإدارية والمالية إعداد الحركة القضائية ويحيلها إثر ذلك إلى رئيس المجلس الأعلى المؤقت للقضاء الذي يحيلها بدوره إلى رئيس الجمهورية في أجل لا يتجاوز عشرة (10) أيام ويتولى رئيس الجمهورية إمضاء الحركة القضائية لكل صنف في أجل أقصاه واحد وعشرون (21) يوما وله خلال الأجل المذكور الاعتراض على تسمية أو تعيين أو ترقية أو نقلة كل قاض بناء على تقرير معلل من رئيس الحكومة أو وزير العدل.وفي هذه الحالة على كل مجلس إعادة النظر في موضوع الاعتراض باستبدال التسمية أو التعيين أو الترقية أو النقلة في أجل عشرة (10) أيام من تاريخ توصله بالاعتراضات .
فكيف سيتصرف رئيس الجمهورية اذا صحت المعلومة المتعلقة بإنهاء المجلس المؤقت للحركة وإرسالها الى رئيس الجمهورية وقد تضمنت إدماج القضاة المعفيين .؟
خياران لا ثالث لهما
ومن الواضح ان رئيس الجمهورية وضع نفسه من خلال قرار إعفاء القضاة ثم اقراره بحق هؤلاء القضاة في الطعن الاداري وما نتج عن ذلك من قرارات توقيف التنفيذ في مأزق إذ هو اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما :
– القبول بهذا الإدماج وهو ما يعني تهافت كل الحملة التي قادها ضد هؤلاء القضاة متهما إياهم بالفساد ما يمثل تراجعا لا يخدم وضعه السياسي الذي يزداد ضعفا يوما بعد يوم بسبب المشاكل الكبرى التي تعيشها البلاد والأزمة الاقتصادية الخانقة التي يئن تحت وطأتها المواطن التونسي .ويميل كثير من التونسيين حتى من أولئك الذين كانوا من مساندي قيس سعيد إلى تحميله مسؤولية كل هذا الوضع المؤذن بالإفلاس وحتى باضطرابات اجتماعية بدأت بوادرها تظهر من خلال المظاهرات الليلة التي تجري في الأحياء السكنية الفقيرة والمكتظة في العاصمة خاصة تنديدا بغلاء المعيشة.
– رفض إدماج القضاة المعفيين وهنا أيضا سيجد الرئيس نفسه أمام مأزق لا خلاص منه اذ ان سعيد بنى خطابة السياسي على شعار احترام القانون وتطبيقه على الجميع مما يجعل عدم الامتثال إلى قرارات المحكمة الإدارية نكوصا عن العهد ومخالفة صريحة لأقواله التي تكذبها الأفعال . ومما سيزيد الأمر تعقيدا هو الخطاب السياسي الذي تعتمده الدولة التونسية وممثلوها في المحافل الدولية فممثلو الدبلوماسية التونسية يؤكدون في كل مناسبة أن تونس تحترم تعهداتها في ما يخص الحقوق والحريات واستقلال القضاء وآخرها التصريح الذي ادلى به السَّفير صبري باش طُبجي المندوب الدَّائم لتونس لدى الأمم المُتَّحدة بجينيف وكان تدخله ردا على تصريحات المفوضة السامية لحقوق الانسان في افتتاح الدَّورة 51 لمجلس الأمم المُتَّحدة لحقوق الإنسان بقصر الأمم في جينيف.
فخلال الإحاطة الشَّفويَّة الدَّوريَّة في 12 سبتمبر 2022 قالت المفوَّضة الأمميَّة السَّامية لحقوق الإنسان بالنيابة السَّيِّدة ندى النَّاشف...انه " في تونس ، تتزايد المخاوف بشأن تدخل السلطة التنفيذية في القضاء، بما في ذلك حالات الفصل بإجراءات موجزة وبدء إجراءات جنائية ضد القضاة. كما تتم إحالة المدنيين، بمن فيهم الصحفيون، بشكل متزايد إلى المحاكم العسكرية ، التي لا تفي بالمعايير الدولية للمحاكمة العادلة. "و عبرت المفوضة عن قلق الامم المتحدة من اجراءات فرض حظر السفر التعسفي ولا سيما على أعضاء المعارضة.و اضافت ندى الناشف انه "مع الإحاطة علما باعتماد دستور جديد، تحثُّ المفوضية السامية لحقوق الإنسان تونس على إجراء انتخابات برلمانية ذات مصداقية ومُدمجة وشاملة، بمشاركة هادفة من وسائل الإعلام والمجتمع المدني، وهي على استعداد لتقديم الدعم من خلال وجودها في تونس".
وفي رده على تصريحات المفوضة السامية اكد باش طبجي على احترام تونس للحقوق والحريات ، مع الدفاع عن قرارات قيس سعيد في ما يخص القُضاة المعفيين نافيا عنها صفة التَّعسُّف و كونها إجراءات موجزة مضيفا أن القضاء المستقل حكم لفائدة القضاة المعفيين من خلال توقيف قرار اعفائهم . هو ما يمثِّل بشكل او بآخر التزاما دوليا يتعلق بمصداقيَّة الدَّولة في الخارج ، وباحترام قرارات القضاء وفي المحصلة اقرارا بحق القضاة المعفيين في الرجوع إلى مناصبهم .
ولا شك ان هذا التصريح كان اثر التشاور مع وزير الخارجية ورئاسة الجمهورية. ولا ندري اذا كان هذا التصريح ليس غير بعض من الخطاب الذي تروجه السلطة في الخارج والذي يسوق منذ 25 جويلية لإجراءات قيس سعيد الاستثنائية وهي تقدم على أنها جاءت ضمن عملية تصحيح للمسار ستؤول إلى إصلاح النظام السياسي الفاسد والذي أدى بالبلاد بحسب الخطاب الرسمي اليوم الى الحالة التي وصلت إليها من تطاحن الطبقة السياسية وفسادها ومسؤوليتها عما يسمى بالعشرية السوداء . وفي كل الأحوال فان هذا التصريح يمثل نوعا من الالتزام الدولي الذي من الصعب أن تتحلل منه تونس خاصة في هذه الفترة حيث سيخضع ملف حقوق الإنسان في تونس إلى المراجعة في الدَّورة 51 لمجلس الأمم المُتَّحدة لحقوق الإنسان بقصر الأمم في جينيف في شهر اكتوبر القادم.
فهل ستصدر الحركة عشية اليوم الخميس كما يتوقع البعض لترفع الغموض التي يعيشه القضاء منذ قرار إعفاء 57 قاضيا أم أن القضاة سيعودن غدا الى محاكمهم وهم يجهلون ما ينتظرهم من قرارات لا احد يعلم عنها شيئا غير من يملك مصيرهم وحده ..يعزل من يشاء وينقل من يشاء ويتصرف دون مراجع لقرراه ..لا القضاء الإداري الذي قد لا تنفذ قراراته ولا المجلس المؤقت الذي لن يكون بإمكانه إنفاذ رأيه وان أبدى بحسب البعض شيئا من المقاومة لقيس سعيد وهي مقاومة لا يمكن أن تستمر في مجلس صنع لتنفيذ الأوامر لا للاختلاف مع الأمر المحتوم ينزل على الجميع كالقضاء المبرم ..؟