الدعاية السياسية للنظام القائم وتجميل صورته وقلب الحقائق وإخفاء المشاكل و تحلية كل صورة ليس كل هذا أمرا جديدا ولا مستحدثا في تونس.. انه تراث مجيد طويل من الكذب. عاشرناه على مدى خمسين سنة مع بورقيبة و بن علي.
فالمدن تجمل، والطرق تغسل وتنظف، والأشجار تزرع لتنمو وتكبر في نصف يوم بمناسبة زيارة فخامته إلى هذه المدينة أو تلك .. كان الكذب يأخذ أفي أكثر الأحيان أشكالا مضحكة ومدعاة إلى سخرية الجماهير… تدشن بئر ارتوازية في الصحراء وهي ليست أكثر من حفرة صب فيها الماء قبل يوم او ساعة ومن ينسى تلك الزيارات الفجائية لبن علي إلى هذه المؤسسة أو تلك . وهي زيارات لم يكن لها من الفجئية غير الصورة الكاذبة؟
كان كل شيء موظبا وكانت عملية الإخراج مفضوحة سيئة، ولكن النظام ظل يستخدمها دون حياء .كان وراء ذلك جهاز دعاية متخصص في استبلاه الجماهير يدعمه إعلام موجه وتابع بالكلية لنظام استبداد بغيظ.
وكل ذلك جزء من نظام فاسد صادر كل رأي مخالف ولم يبق من الصورة غير مشهد وحيد في غاية الرمزية كنا نراه كل يوم في شريط الأنباء في الثامنة مساء لرئيس يجلس في قاعة من قاعات قصره في المحور وعلى يساره ويمينه صفان من الوزراء المائلين برؤوسهم اليه وهو يحرك شفتيه متكلما ..كانوا جامدين كالصخر في صمت قدسي أمام الصنم الأعظم الذي يصل الينا صوته حتى ولو لم نسمعه لان الصورة كانت ابلغ من الصوت والكلام المسموع. .. كنا نعتقد ان هذه المشاهد والأفلام الهزلية ذهبت مع الثورة، ولكن هيهات ..
فالإدارة وجهاز الدعاية وأساليبه السخيفة توارت على أنظارنا سنوات قليلة لتعود وما بالعهد من قدم.
الآلة القديمة الصدئة ظلت موجودة مركونة في إحدى الزوايا، ولكنها كانت قادرة على الاشتغال متى أدرنا مفتاح القيادة تماما مثل سيارة قديمة لم تتحرك عجلاتها، ولكن محركها ظل قادرا على الاشتغال في كل وقت . لم تنسه أجيال قديمة وجديدة من الإداريين الفاسدين و الدعاة السياسيين السخفاء والذين عادوا في استغراب الجميع إلى الأساليب البالية.
لا يعنيهم كثيرا تطور العقول كما لا يعنيهم كثيرا ما طرا على المشهد الإعلامي منذ مجيء وسائل التواصل الاجتماعي من انفجار وعي الناس وتحرر الألسن وانحسار دائرة الخوف.
ان الزيارة الأخيرة التي شاهدنا لحي الانطلاقة ليست غير شيء من تراث قديم من التزييف لا يريد أن يرحل ولا يريد رجاله أن يتغيروا في حين تغير كل شيء حولهم .
إن رجال العهد الجديد ما بعد 25 جويلية ليسوا غير رجال بن علي وبورقيبة في ثوب بال مستهلك عليه رائحة النفطلين التي اشتمها الجميع لأنها كانت تزكم الأنوف . لا يهم أن يضحك الشعب الآن مما يراه ويسمعه . ولكن الأهم أن يظل النظام يمارس كل أنواع الزيف على أمل ان يوجد أغبياء يصدقونه . وحتى إذا لم يوجد هؤلاء إلا في ذهنه فهو يستسهل استحمارنا طالما انه متأكد من عجزنا عن أي مواجهة في طريق التغيير.
لقد قال لنا بن علي "بكل حزم " حين كان لا يزال يعتقد أن الأمر بين يديه ماسكا بزمام الأمور فهي تحت السيطرة تماما ولكنه قال لنا بعد ذلك "غلطوني " حين فهم أن الكذب لم يعد بجدي وان البئر الارتوازية المزيفة التي دشنها في الصحراء امام اعين الكاميرا المدربة على الكذب والإخوة الوزراء واعضاء لجان التنسيق والشعب الدستورية قد جف ماؤها وان الأشجار المزروعة بمناسبة زيارته الكريمة قد ماتت ولم يبق منها غير هياكل شاهدة على الافتراء والعبث وان الطريق التي غسلت بالماء الساخن لمدينة نظيفة يمشي عليها ركبه المفدى و تذكرك بجينيف عادت الى قذارتها.
صار بن علي يستجدي عطف الشعب حين استنفد رصيده من الكذب والخداع. ولكن كان الآمر قد خرج بعد عن السيطرة.
لماذا لا يفهم حكامنا الأشياء في وقتها وأوانها فيظلون يكذبون على أنفسهم وعلى الشعب إلى أن تحل عليهم الواقعة " لَيۡسَ لِوَقۡعَتِهَا كَاذِبَةٌ ، خَافِضَةٞ رَّافِعَةٌ " ؟
لم يكن بن علي يخدع أحدا حتى أتباعه لكنه يظل يستعمل جهاز الكذب لأنه كان جاهزا متاحا يشتغل قبله منذ عشرات السنين . ذهب بن علي، ولكن جهازه السخيف ظل موجودا والرجال الذين قاموا على تشغيله وتحريكة قد يكون البعض منهم توفي أو تقاعد، ولكنهم أورثوه إلى الأجيال بعدهم من السياسيين الفاسدين والإداريين الحمقى فلجؤوا الى تحريكه لأنهم لا يملكون غيره .
ليس ما شاهدناه في تلك الزيارة الفجئية جديدا، بل هو القديم الذي عليه رائحة النفطلين أخرجه البعض من الدولاب البالي لأنه بعض من تراثنا ومن تراث الاستبداد الذي لا يريد أن يرحل . فلا يزال يوجد بيننا من يستفيد منه ويتمعش جراءه أو يمارس بواسطته حربه الايديولجية المقدسة ضد أعداء حقيقيين أو وهميين بأسلحة كل أنظمة الكذب والتزييف .